موسكو وواشنطن… الصراع القديم يتجددّ!
أسامة العرب
بدأت التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة وروسيا تأخذ شكلاً جديداً من «الحرب الباردة»، التي قد تضع النظام الجيوسياسي العالمي كله تحت حالة ضغوط غير محسوبة العواقب. فقد أصرّت الإدارة الأميركية على بناء درع صاروخية في منطقة أوروبا الشرقية، وتحديداً في رومانيا وبولندا، لاستهداف المنظومة الصاروخية الروسية العابرة للقارات. إلى جانب ذلك، تأتي العوائق التي يضعها الناتو دائماً أمام روسيا عندما يقوم بين الفينة والأخرى ببعض المناورات العسكرية في أوروبا الشرقية، وبالقرب من الحدود الروسية، وهو ما يدفع الروس إلى الشعور بعدم الارتياح والتعبير عن قلقهم.
كما يتزامن ذلك، مع تعهد الملياردير الجمهورى دونالد ترامب بإلغاء الاتفاق النووى الإيراني، الذى أبرم فى تموز من العام الماضى بين إيران ومجموعة الدول السّت، فى حال انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، مؤكداً فى كلمة أمام المؤتمر السنوي للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية فى واشنطن «أيباك» أنّ أولويته الأولى هى تفكيك هذا الاتفاق الذى وصفه بـ«العار». ومن ثم صرّح بأنّ «إسرائيل ستُدَمّر إذا لم يصبح رئيساً للولايات المتحدة»، زاعماً أنّ «الاتفاق النووي الإيراني يعني نهاية إسرائيل كدولة«، ومنتقداً «تأييد المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون له». ومن ثم قال مستشار ترامب للسياسة الخارجية الجنرال مايكل فلين في بيان له «إنّ التقرير الصادر عن مركز أبحاث واشنطن والذي نقلته رويترز يظهر بأنّ الحزب الديمقراطي ورّط أميركا في إبرام الاتفاق النووي مع إيران، وبأنه يجب نقضه».
ولاحقاً في أول مناظرة تلفزيونية بين مرشحي الرئاسة الأمريكية، اعتبرت هيلاري كلينتون أنّ إبرام الاتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني «يظهر قوتها الدبلوماسية»، داعيةً إلى أن تركز أميركا جهودها في القضاء على التنظيمات الإرهابية، وفي تكثيف الضربات الجوية عليها بالتعاون مع القوات التركية والكردية. أما ترامب فقد أكد مجدّداً رفضه للاتفاق بين طهران والدول الكبرى، قائلاً بأنه سوف «يهزم إيران»، وأنه التقى مع بنيامين نتنياهو رئيس وزراء «إسرائيل» وأنّ الأخير «ليس سعيداً» بالاتفاق. فيما تساءلت كلينتون عن الطريقة التي سوف يهزم بها ترامب إيران، وقالت: «هل سوف يقصفها»؟ فردّ ترامب قائلا إنه «لا يمكن أن يستبعد أيّ شيء من على الطاولة، في التعامل مع دول مثل كوريا الشمالية وإيران».
ونذكّر بأنّ بنيامين نتنياهو كان قد اختلف بالسابق مع الحزب الديمقراطي الأميركي ورفض علناً سياسته الرامية إلى إيجاد حلّ سياسي لأزمة البرنامج النووي الإيراني، الأمر الذي وتّر علاقات «إسرائيل» مع أوباما حينها بشكل غير معهود. إذ سعى نتنياهو إلى فرض رؤيته المتمثلة بإزالة البنية التحتية للمشروع النووي الإيراني كلياً، إمّا بواسطة ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية تقوم بها الولايات المتحدة و«إسرائيل»، وإمّا بفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية الخانقة على إيران لإرغامها على تفكيك مجمل مشروعها النووي.
من جهته، انتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قيام الجيش الأميركي بتشغيل أجزاء من الدرع الصاروخية في رومانيا مع استمرار العمل على جزء آخر في بولندا، وحذر الدولتين بأنهما قد تجدان نفسيهما في مرمى صواريخ بلاده بسبب وجود أجزاء من الدرع الصاروخية الأميركية على أراضيهما، ومؤكداً بأنّ هذا الأمر يشكل تهديداً لأمن روسيا. كما قال الجنرال فيكتور بوزنيهير النائب الأول لمدير دائرة العمليات الرئيسية للأركان العامة للقوات المسلحة الروسية يوم الثلاثاء 11 تشرين الأول: «بحسب الخبراء الروس، تسعى الولايات المتحدة من خلال امتلاك الدرع الصاروخية إلى الحصول على إمكانية توجيه ضربات نووية صاروخية مفاجئة، دون عقاب إلى أيّ منطقة في العالم، بما في ذلك روسيا والصين». ولكنّ الجيش الأميركي صرّح بأنّ هذه الدرع الصاروخية ضرورية للحماية من «إيران» وليس لتهديد روسيا، لكن بوتين رأى بأنه لا مبرّر لإقامة هذه الدرع بذريعة مواجهة طهران بعد الاتفاق الدولي بشأن برنامجها النووي. ومن ثم قالت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون المراقبة على الأسلحة والأمن الدولي روز غوتيمولر «إنّ الولايات المتحدة لم تقل أبداً إنّ تسوية الملف النووي الإيراني ستجعل نشر منظومة الدرع الصاروخية في أوروبا أمراً زائداً عن اللزوم أو لا فائدة منه». وأضافت أنّ «الرئيس أوباما أشار بوضوح إلى أنّ نجاح تسوية البرنامج النووي الإيراني لن يلغي الحاجة إلى إقامة منظومة الدرع الصاروخية، وأنّ الولايات المتحدة ستواصل التمسك بضمان أمن حلفائها «إسرائيل» في ظلّ احتمال تجلي تهديدات صاروخية من قبل إيران والقوى الموالية لها في المنطقة».
فيما ردّ فيكتور بوزنيخير على التصريحات الأميركية قائلاً: «بأنّ هدف إقامة نظام الدرع الصاروخية العالمية الأميركية هو الحدّ من قدرات القوات النووية الروسية، فضلاً عن إمكانية الإنهاء التامّ لقدرة الصين النووية، مؤكداً أنّ روسيا مضطرة لاتخاذ إجراءات جوابية لمنع مخططات واشنطن من إقامة الدرع الصاروخية حتى لا تؤثر على التوازن في مجال الأسلحة الاستراتيجية». أما قائد القوات الصاروخية الاستراتيجية الروسية الجنرال سيرغي كاراكييف فقد قال «إنّ تقديرات الخبراء المرتكزة على تحليل البيانات ومدى قوة الدرع الصاروخية، تظهر بأنّ نظام الدفاع الأميركي المضادّ للصواريخ الذي تقوم أميركا بنشره حالياً، سوف لن يكون قادراً لوحده على مواجهة زخة كبيرة من الصواريخ الاستراتيجية الروسية».
وإذا كانت العلاقات الأميركية الروسية تتجه نحو المزيد من التأزّم، سواء لجهة الابتزاز المكشوف لموسكو بهدف إجبارها على التخلي عن تعاونها مع إيران في مجال القدرة النووية لأهداف سلمية، أو الضغط عليها في مسائل إقليمية أخرى كسورية واليمن، إلا أنّ المستهدف الحقيقي من نشر نظام الدفاع الصاروخي الأميركي هو الصين بالتحديد .وينبع ذلك من القرار الاستراتيجي لأميركا بتحديد الصين مستقبلاً كعدو رئيسي للولايات المتحدة الأميركية، بعدما تبيّن لها أنها القوة العظمى الصاعدة، علماً بأنّ الولايات المتحدة الأميركية ملتزمة بسياسة كيسنجر المنظّر لأهمّ نظرية استراتيجية حديثة قائمة على أنه لا يجوز السماح لموسكو وبكين من إقامة تحالف استراتيجي بينهما.
كما أنّ هناك عدة تحوّلات مهمة طرأت على مفهوم قوة الدول العظمى، يعبّر عنها بالاتحاد التدريجي ما بين القوة العسكرية والقوة الاقتصادية، وعلى مفهوم توازن القوى في ظلّ تحديات نظام القطبين، ولهذا أصبحت توجهات الدبلوماسية الأميركية للسنوات القادمة تركز بشكل رئيسي حول السعي لإعادة نظام القطب الواحد من جديد. كما باتت قوة أميركا العسكرية الضاربة تتدخل أينما كان وكيفما يشاء البنتاغون خوفاً من تبوّؤ الصين وروسيا مكانة الصدارة في العالم، وذلك بعدما ضمنت الولايات المتحدة انهيار الاتحاد الأوروبي من خلال فبركة أزمات مالية ضاربة والاتكال على رافعة البترودولار للخروج منها.
إلا أنّ ما لا تدركه أميركا، أنّ نظام القطب الواحد قد ولّى إلى غير رجعة بعدما توحّدت قوتا الصين وروسيا، وبأنه لا مجال لأن تعود عقارب الساعة من جديد إلى زمن انهيار الاتحاد السوفياتي أو زمن استعمار وانتداب الدول المستضعفة والتدخل في شؤونها الداخلية، لا سيما بعدما وسّع محور المقاومة أيضاً من تحالفاته الإقليمية والدولية، وانتصر بفعل صموده وتضحيات شهدائه. ولهذا، فإنّ على أميركا و«إسرائيل» أن تعلما بأن ّالتاريخ قد طوى صفحة الإمبرياليات، وبأنهما سوف تعيشان من الآن فصاعداً زمن الهزائم فيما نحن الذين سوف نعيش زمن الانتصارات!
محام، نائب رئيس
الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً