التأسيس القومي.. أبعد من الردّ أعظم من التحدّي

هاني الحلبي

يجدّد التأسيسُ النبض. يدفق في يباسنا النُّسغ لتتهيّأ لنا براعمُ حياة وتُورق حباً، طفولة، أغاني، أناشيد، قصائد، فكراً، غلالاً، أعراساً وشهداء خالدين!

ولم يكن تأسيس النهضة القومية الاجتماعية ترفاً أراد مؤسّسها الفادي أن يبتدع ما لم يذهب إليه أحدٌ قبلَه من أمتنا، إذ ما كان يعوز أنطون سعاده شهرة أتت إليه خلال ثلاثينيات القرن الماضي، بشهادة أمير البيان المفكر شكيب أرسلان جواباً على سؤال مغترب عن حال لبنان: «لبنان اثنان، لبنان وأنطون سعاده»! ولم تكن تعوز الزعيم السوري القومي فرادة تحققت في سيرته من تراكم الأداء اليومي الغنيّ، في لفتات سلوكه وفي يوميات مواقفه التي تعرض له من دون إعداد مسبق، بدءاً من بزوغ تفكيره الوطني الاستقلالي، وهو حَدِث، جواباً على وجيهَين بيروتيين متجادلَين في صالون بلدية بيروت، فعلّمهما بلطفه الدمث، ما لم يكن بحسبانهما أننا يمكننا أن نحكم أنفسنا؟ ونستطيع!

تنامت هذه السيرة القيادية نبوغاً وعظمة، مع اضطراد اطلاعه وثقافته الموسوعية وعمق معارفه العلمية والفلسفية والسياسية، وإعادة تجسير تلك المعارف في دماغ سوري جبار مجدّداً بعدما تمّ فصلها أكاديمياً بنظريات تقسيم العلوم، فحنّطتها من قوتها الحيوية، لتعزلها عن نواميس الحياة الدافقة، ولتصبح مجرد أنابيب اختبار مفارقة لمعايير الواقع الاجتماعي الطبيعي الأساس، الذي يبقى المعيار الأعظم والحَكَم الأعدل والميدان الأوجب.

كان يدرك المؤسّس سعاده قسوة الويل وعمقه ومداه، ويدرك أنه المثير، ولكلّ مثير استجابة. ويمكن للاستجاية ان تلبّيَ شروط المثير وأحكامه لتحقق الجَميعة بين مكوّنات متفارقة فتجتمع في نظرة أو خطة او نهج او مشروع يوفّر الحلّ لما تمّ تعيينها مشكلة أو وصفه تحدياً.

إذا كان المثير هو فقدان السيادة القومية تشوّش الذات في وجدان الشعب التفاوت الحقوقي السياسي الاجتماعي بين المواطنين التشتت الديمغرافي التشظي المدمّر الانهيار القيمي الأصيل الطغيان السياسي التحكم الإقطاعي الفسيفساء المتراكمة على الجوهر السوري من مكوّنات فارسية، رومانية، بيزنطية، بدوية عربية، عثمانية، وعروبية انفلاشية مفترضة، ومركزية سياسية ونفسية وعلمية، اختلاط ذات الأمة في أفهام بنيها مع أطياف ذوات أمم أخرى أو انغلاق الروح القومي لدى بعض المتحزبين قصور البعض عن الجهاد القومي في أصغره وأكبره فإنّ الاستجابة بتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أطلقه زعيمه انطون سعاده تعدّت تلك الأسباب إلى تقويم فريد ووحيد للحضارة الإنسانية قاطبة. فإنسانه ليس فرداً بل إمكانية إنسانية فاعلة ومبدعة تضيف إلى خصوصيتها الذاتية فهمها طاقة مجتمعها الشخص المعنوي المستمر باستمرار أجياله مما قبل التاريخ الجليّ.

والمجتمع عنده ليس فسيفساء قبائل ولا طوائف ولا مكوّنات أعراق ولا خليط أقوام ولا مزيجاً دموياً نقي الألوان أو متعدّدها. المجتمع عند سعاده وحدة حياة تتكوّن نواميس بالتفاعل المحيي القوى الإنسانية في صراع دائم بين ما هو حق وما هو باطل لينتصر الحق فيه ويتخلل كلّ المشتركين في حياته الواحدة. والمعرفة عنده وجود ومعرفة والعقل شرع أعلى لم يُعطَ أبداً ما يعطّله. والدولة ليست صنماً بل مؤسسة الشعب الكبرى قيمتها أنها الناظم موارد القوة والحياة في الشعب والوطن، ولا قيمة لها بذاتها من دون هذه الغاية القومية الاجتماعية الجليلة. والدين نسقُ مفاهيم ارتقت من طوطمية بائدة إلى روحانية سامية وسداها تشريف الحياة وتسامي الإنسان عن مادية متكالبة عدمية وعن روحانية هائمة بلا حضور ولا جوهر. والفلسفة هي فرض عين على كلّ فهم عارف وعقل شامل في المجتمع، تحقق له الوعيُ المستشرفُ لسبر المعارف إلى عللها الأولى بدلاً من العبث بتراكم ما قدّمته فلسفات جزئية تلاغى بها مشاهير فغدت أصنام مسرح بشري يُعمي الفاهمين ويُسلّي الهائمين عن جوهرية الحقيقة. فالتفلسف وعقد الصلح معه مجدداً بينه وبين العقل السوري كان مهمة عظيمة عقدها سعاده في العصر الحديث ليعطيَ ما لم يُعطِه مجدِّدٌ فكري ومقوِّمٌ حضاري بفلسفته السورية القومية الاجتماعية!

هذا التأسيس لم يكن بناءً فوق أنقاضٍ متهالكة. بل كان كشفاً عمّا قدمته الأمة خلال عصورها المتلاحقة من أفذاذ عقول تميّزت بهم وبزّت الأمم قاطبة، وكشفَ تأسيسها كل فكر وأدب وحق وجمال ومذهب ومنحىً وفن ونظام ودين في العالم.

لكن سعاده بالتأسيس العظيم لم يكتفِ بكشف ما انبرى له ولم يجمع ذلك الرذاذ من لغات عدة ومن موسوعات عدة ومن تراثات أمم عدة تشهد لنا، بل وضع النهج للتقميش، لتقميش تراثنا وأسس فلسفته وفهمه وتقويم ما اختلط به، لتمييزه عن سواه بلا افتئات ولا غلوّ، فامتلاك الأمة السورية عقلاً إنسانياً ممتازاً جدير بنا إيقاظه ليفعل ويبدع، وأيّ فعل هو إبداع لا بدّ أن ينطلق من وعي ما تأسس لإغنائه وتوسيعه وإعلاء عماراته الفكرية البهية!

في عيد التأسيس القومي، ها هي سورية في أشدّ لحظات طلْقها وجعاً، ويجدر بنا كقابلة أن نثمّر الوجع ونختصره بالجهاد المحيي القوى السورية لتحيَ سورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى