البناء الروحيّ ـ النفسيّ للإنسان السوريّ لدى سعاده

زياد العكة ـ مونتريال

في الأول من تشرين الأول 1921، كتب شاب لم يكن يتجاوز السابعة عشرة من عمره في جريدة «الجريدة» البرازيليّة مقالاً بعنوان «السوريّون والاستقلال».

لم يمضِ عقدٌ من الزمن، حتى عاد هذا الشاب إلى وطنه، حاملاً ما هو أكبر من حلم، متطلّعاً إلى ما هو أبعد من هدف. كان يجيب مَن يسأله لماذا عدت؟ إجابة محدّدة وواضحة: «جئت أُنشئ حزباً ينهض بأمّتي وبلادي».

لم يسأل أنطون سعاده الأسئلة السهلة. لذا، فإن إجاباته لم تكن يوماً بسيطة ومريحة لمن يخافون تحريك المياه الراكدة. ذهب أنطون سعاده بأسئلته إلى لبّ المسألة السوريّة، حفر حتى العمق، هناك حيث لم يجرؤ كثيرون على الذهاب، هناك بؤرة المأساة، هناك المسكوت عنه في الطائفية والجغرافية المريضة والتاريخ المزوّر، هناك جحر الثعابين والمستنفعين من رجال الدين والسياسة. تحدّى الأفكار التقليدية عن مفهوم الأمة. رفض شروط عالم السياسة القائم على المصالح، وآمن أنّ الإنسان السوريّ قادر على الخروج من متاهات الانتماءات الضيقة إلى فكر الأمة السوريّة الرّحب والغنيّ والواعد.

لم يؤسّس أنطون سعاده حزباً فقط، بل أطلق ثورة، وفي ثورته من أجل نهضة الأمة السورية، بنى الفكر السوريّ القوميّ الاجتماعيّ حجراً حجراً، ليكون أول ـ وربما آخر ـ معقل للعلمانيّة في سورية الطبيعية، وليربط للمرّة الأولى بين القيم والأخلاق من جهة، والعمل السياسي من جهةٍ أخرى.

حين أطلق أنطون سعاده فكرة تأسيس الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، انطلق من مفهومين أساسيّين هما:

1 ـ مفهوم بناء الأمة. إذ بيّن علاقة الإنسان بالإنسان، والتي تكوّن المجتمع، ثمّ بيّن علاقة الإنسان بالأرض والتي تكوّن مفهوم الوطن.

2 ـ مفهوم بناء الإنسان السوريّ روحياً ومادياً.

لم يختمر مفهوم بناء الأمة في عقل أنطون سعاده إلّا بعد فحص دقيق للتطوّر البشريّ. فبعدما أتمّ دراساته العلمية في نشوء المتحد الإنسانيّ البدائيّ وتكوينه، انتقل إلى وضع مفاهيمه الفلسفيّة في المتّحد الأتمّ وهو الأمّة. فكان بزوغ فكرة الأمّة السورية نتاجاً لأبحاث علمية استندت إلى الجغرافيا والتاريخ والسياسة والاقتصاد والانثروبولوجيا. هذه الدراسات العلمية، وضعت الإنسان السوريّ في بوتقة صهرته مع الأرض التي يعيش عليها ليخرج مفهوم الوطن من حيّز التعبير الكلامي إلى حيّز الحقيقة الفاعلة.

لقد ركّز أنطون سعاده في تبنّيه مفهوم المجتمع الراقي على علاقة الإنسان بالإنسان التي تحكمها الأخلاق وتسيّر دفتها القيم العليا في الحياة من حق وخير وجمال، لتنتج نفسية إنسانية راقية تكفل تحقيق نظامِ مجتمعٍ راقٍ يكون إنسانه مجموع مناقبَ موروثةٍ يورّثها لأجيالٍ تكفل رفعة هذا المجتمع وسموّه.

لم يخُض مؤسّس النهضة السورية القومية الاجتماعية غمار العلوم الحقوقية والقانونية، بل تركها للأجيال ذات الاختصاص. فما كان منّا إلّا أن توانينا عن إكمال ما لم يكمله الزعيم في هذا المجال، وتقاعسنا عن إتمام ما تستحقه منّا هذه النهضة العظيمة في كفالة حقوق الإنسان السوريّ، وإقامة العدل وتغليب القانون على الشرائع والسنن والمعتقدات التي تأخذ بحقوق الإنسان مأخذاً بعيداً عن ضمان مستقبله ومستقبل أجياله. لقد تركنا تلك النواظم المجتمعية على أُفق حياة إنساننا السوريّ، تقذفه أحياناً خارج الدورة الطبيعيّة وحيناً آخر خارج حدود وطنه.

المجتمع محكومٌ طائفياً والوطن مسيّسٌ عرقياً بين جماعات غير مجتمعة إلّا على مصالح فئوية تنهش جسم هذا الوطن وتنهب ثرواته وتسرق نتاج إنسانه، من أجل أن تجيّرها لمنافعها الفئوية الضيقة. فما كان من إنسان هذه الأرض إلّا أن يستسلم لإرادة فئة حاكمة طاغية متجبّرة حيث يرمي نفسه في تيار فسادها، فيَفسُدَ معها، أو أن يرتحل عن الأرض التي أحبّها إلى أرض غير أرضه، بعدما صار يشعر داخل وطنه بالاغتراب والضعف وفقدان الكرامة وغياب قانون يضمن له أبسط حقوقه.

لقد عالج سعاده مفهوم بناء الإنسان السوريّ روحياً، فقام بتفكيك وتحليل العوامل التي أثّرت على الإنسان السوريّ وساهمت في أحيان كثيرة بتفتيت تكوينه النفسيّ وتوهانه. فجاءت العقيدة السورية القومية الاجتماعية لتستنهض هذه النفسية من دركات غياهبها، ولتخرج الفكر السوريّ من دركات الجهل إلى عتبات المعرفة بحقيقة وجوده. هذه العقيدة التي استطاعت وتستطيع أن تنتشل الإنسان من مستنقع الطائفية المقيتة إلى بحر المواطنة الفاعلة.

أمّا في بناء الإنسان السوريّ مادياً، فقد كان للسياسات الخاطئة التي تولّاها أفراد أنانيّون ونفعيّون أثر كبير في إيقاف دورة الحياة الاقتصادية والتنظيمية. فبعدما نهشت الأحزاب الطائفيّة والتيارات الدينيّة جسم الإنسان السوريّ، فزوّرت تاريخه وغيّرت حاضره وأظلمت مستقبله، جاءت مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي لتكون الرافعة التي تُعلي الإنسان السوريّ من مرتبة التابع والأجير إلى مرتبة المنتج.

إنّ نهضة أنطون سعاده رفعت مستوى الوعي لدى الإنسان السوريّ إلى فهم عميق لجوهر مفهوم الإنتاج بكلّ أطيافه فكراً أو علماً، غلالاً أو صناعة، وأنضجت إدراكه بحيويّته المادية لا كفرد مستهلك، بل كإنسان مجتمعيّ يعي قوة حضوره وتأثيره في مجرى التاريخ. فكان قول الزعيم: «إنّ فيكم قوّة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ، وهي لفاعلة».

حين أتمّ أنطون سعاده دراسة الواقع السوريّ في عصره والعوامل التي أدّت إلى انحطاط أمّته التي آمن بها، جاءت نظرته المدرحيّة إلى الحياة والكون والفنّ لتؤسّس المداميك الأوليّة والركائز الأساسيّة لبناء نهضة تكفل استمراريّة أمّته ونفسيّة إنسانها. لقد ركّز أنطون سعاده في مدرحيّته على الأخلاق والمناقب التي يتمتّع بها إنساننا السوريّ عبر تاريخه الطويل على أرض وطنه السوريّ، ودعا إلى نبذ المثالب التي تحطّم نفسية هذا الإنسان السوري وتقوده إلى الدرك الأسفل.

هكذا أراد سعاده إنسانه السوريّ الذي راهن على أصالته الأخلاقية، فقتل فيه أنانيّته المدمّرة وخلق فيه الإنسان المنتج، إنسان المجتمع الذي يعمل لنهضة أمّته وفلاحها، فأطلق له العنان إلى السير قُدُماً بنفسيّة جبّارة واضعاً نصب عينيه مصلحة أمته فوق كلّ مصلحة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى