أطر السلام المتحركة في سورية بانتظار «السياق الثالث»؟
سومر صالح
كثيرة هي الأسباب والمتغيّرات التي تدفعنا إلى القول إنّ الأزمة السورية ليست حالياً على السكة الصحيحة للحلّ، رغم المساعي المرتبكة التي يبذلها المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا الرامية إلى إحداث خرق سياسيّ في مسار الحلّ في سورية مستفيداً من الصمت الأميركي من جهة، وسياق أستانة من جهة ثانية الذي كان من المفترض به أن يحرك المياه الراكدة في مسار الحلّ السياسيّ. ولاهثاً يسارع دي ميستورا لإيجاد حلّ في سورية مستفيداً من الخبرة الدولية في صراعات مشابهة في البنية الجيواستراتيجية للصراع . ولعلّ الأزمة الكمبودية المتشابهة مع الأزمة السورية في ظروفها الإقليمية ومراحل تطوّرها شكلاً، كانت خيار دي ميستورا، فنجد أنّ مفردات الحلّ في تلك الأزمة تستعمل بطريقة مشابهة ونسق تراتبي مماثل نوعاً ما في شكل الحلّ السوريّ المفترض، وفي مقدّمها «السلطة الانتقالية» تأسيساً على سلطة قائمة وليس بديلاً عنها، إضافةً إلى الانتخابات ومقترح مبادئ الدستور في نص وثيقة السلام، وتلازم وتوازي المسارين العسكريّ والسياسيّ بما فيها وقف إطلاق نار دائم بضمانة إقليمية ودولية، والإشراف الدولي على وقف إطلاق النار وضبط التسلح عبر الحدود الإقليمية، وغيرها من مفردات تستخدم في مسار جنيف السوري حالياً، وهو نموذج قد لا تعارضه روسيا مستقبلاً بعد الأخذ برؤيتها وملاحظاتها لشكل الحلّ النهائيّ، ولكن ذات الخبرة الدولية أيضاً تقودنا إلى إمكانية قراءة شكل الحلّ في سورية بطريقة مغايرة انطلاقاً من ذات المتغيّرات، فنمط التدخل الأميركي المحدود في الأزمة الكمبودية وشبيهه في الأزمة السورية والحرب بالإنابة مع روسيا ونمط التدخلات الإقليمية قد يفضي إلى نماذج أخرى في تحليل واستشراف شكل الحلّ السوري وعلى رأسها اتفاق السلام في جمهورية البوسنة والهرسك المعروف بـ«دايتون»، الذي يعدّ شكلاً واضحاً لتقاسم النفوذ الصريح بين أطراف الأزمة الخارجية تلك، نموذج يفضله الأتراك أيضاً لأنّه يفضي لهم بمنطقة نفوذ بين جرابلس واعزاز تفيدهم مستقبلاً في صراعهم مع الأكراد في حال انقلاب الولايات المتحدة على نظام أردوغان أو غيره وفق ظروف أميركية جديدة، وترجيح أحد السيناريوين هو رهن بالسلوك الأميركي في الأزمة السورية، وهذا يتطلب إعادة قراءة تطورات مسار جنيف وكيف أثرت عليه المتغيّرات الكبرى، فدخول روسيا في صلب المعارك في الأزمة السورية بتاريخ 30/9/2015 قد أنتج لنا سياقاً دولياً اسمه «سياق فيينا» للحلّ كنوع من تطويق مفاعيل هذا الدخول وأنتج هذا السياق مرجعية القرار 2254 كمرجعية للحلّ في سورية، وكانت معه جولات مسار جنيف الثالث بجولاته الثلاث، ولاحقاً طرأ متغيّر جديد على الأزمة السورية متمثل بدخول تركيّ عدواني في صلب المعارك في سورية بعد 24/8/2016 وكان لا بدّ من احتوائه روسياً وأنتجت مفاعيله «سياق أستانة» بجولاتها الثلاث، وكانت مدخلاً لإعادة قطار جنيف على سكة الحلّ السياسيّ في مسار جنيف الرابع بجولاته الأربعة من خلال وقف اطلاق النار باتفاق إقليمي اتفاق موسكو31/12/2016 ، ولكن سريعاً طرأ متغيّر جديد في الأزمة السورية أفقد سياق أستانة قوته الدافعة، وأربك حسابات أطرافه، وأخلّ بتوازنات مسار جنيف، إنّه تعزيز الدخول الأميركي «المحدود» في صلب المعارك في سورية، وتعزيز البنية التحتية لهذا التدخل العدوان عبر إنشاء قاعدتين في الشمال الشرقي من سورية، الأمر الذي يتطلب سياقاً جديداً مشابهاً لسياقي «فيينا واستانة» لبلورة الحلّ في مسار جنيف أو إعادة كتابة أسسه… وربما قد يتغيّر كلّ شيء في مسار جنيف إذا ماطلت الولايات المتحدة في انعقاده، أو رفضت انعقاده بالتفاهم مع روسيا من جهة وتركيا من جهة مقابلة، فالمماطلة الأميركية تعني سلفاً تبنّيها شكل اتفاق دايتون، أيّ تقاسم النفوذ في سورية مع روسيا، وهو أمر سيدفع تركيا إلى تبني ذات الخيار ولكن بدوافع مختلفة لمنع وصول الكرد إلى عفرين، وهذا يتطلب انقلاباً على تفاهماتها مع روسيا في سياق أستانة الأمر الذي يُدخِل مسار جنيف عداد الموتى. أمّا في حال قرّرت الولايات المتحدة الدخول في تفاهمات مع روسيا وتركيا حول سورية في إطار قرارها بالتدخل العسكري المحدود في سورية والذي نجد إرهاصاته في اجتماعات أنطاليا بين رؤساء أركان أميركا وروسيا وتركيا 7/3/2017، قد ينتظم مسار الحلّ في سورية دون تحديد شكله، أمّا طبيعة وحدود تأثير واتجاه هذ الانتظام فهيّ رهن بطبيعة التفاهمات الأميركية مع روسيا وتركيا، ومعه تبدو الإشارات التي خرجت من اتفاق «منبج العسكري» بين ما يعرف بـ«مجلس سورية الديمقراطية» من جهة والجيش السوري – قوات حرس الحدود من جهة أخرى وفق مصادر المعارضة .. إضافةً إلى تلميع صورة «حركة أحرار الشام» الإرهابية مؤخراً الرافضة لسياق أستانة إشارات مقلقة للغاية…
هنا علينا تحليل الهدف الأميركي في تعزيز التواجد العسكري في سورية ومدّته الزمنية، ويبدو المشهد أمام ثلاثة سيناريوات، السيناريو الأول هو التواجد الدائم وهذا يعني أنّ قراراً أميركياً بتبني خيار «دايتون» في شكل الحلّ السوري لاعتبارات تتعلق باستراتيجيتها تطويق أوراسيا ومنع التواصل بين أوراسيا والمتوسط عبر إيران والعراق… والسيناريو الثاني هو التواجد المؤقت في مقابل تواجد روسيّ مؤقت تعمل الولايات المتحدة على فرضه، وهذا يعني الاتجاه باتجاه تبني شكل الحلّ الكمبودي الذي يقضي بانسحاب كلّ الأطراف الخارجية للصراع، أمّا السيناريو الثالث وهو التواجد الرمزي دون الدخول مع تفاهمات مع روسيا بقصد إطالة أمد الصراع إلى أقصى فترة زمنية ممكنة ريثما تتبلور استراتيجية أميركية لتطويق الصعود الروسيّ… وهذا يعني مزيداً من الفوضى وتقويض سياقي فيينا وأستانة…
وعليه فمن الواضح أنّ أطر السلام في سورية ليست ثابتةً بل متغيّرة وتتبع خطوط التماس عسكرياً وجيوبولتيكياً، وتتحرك بتغيّر سلوك الفواعل الخارجية الرئيسة في الأزمة حسب تغيّر استراتيجياتهم وأهدافهم، وهذا أمر سلبيّ على السلام في سورية ويطيل من أمد الصراع ويعطل مسار الحلّ السياسي للأزمة السورية، وثبات هذه الأطر للأسف باتت بانتظار استقرار السلوك والهدف الأميركي في الأزمة السورية، دون أن ننسى أنّ إشاعة الفوضى الكاوس في المنطقة هي استراتيجية الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عقد الثمانينيات في القرن المنصرم، ونجزم سلفاً أنّ الإدارة الأميركية لم تجرؤ لحدّ الآن على تبنّي خيار التواجد الدائم في سورية لاعتبارين، الأول عجزها عن تطويق المفاعيل السلبية لهذا الخيار وفي مقدّمها التواجد الإيراني أيضاً شرق المتوسط كردّ فعل محتمل، وهو ما سيغيّر قواعد اللعبة الأمنية على كامل جغرافيا «الشرق الأوسط» وفي مقدّمها «الأمن الإسرائيلي» الذي ستتقوّض أسسه، والثاني أنّ الولايات المتحدة غير قادرة على ضبط ردّ الفعل التركيّ الذي قد يرى في هذا الخيار تبنياً للمشروع الكردي في المنطقة وقد يقود تركيا الإخوانية إلى استخدام ورقة التنظيمات الإسلاموية المتطرفة ضدّ التواجد الأميركي في المنطقة» الكردية»، وفي مقابل هذا الجزم سنطرح التساؤل التالي، ما هي الخيارات الروسية المتاحة في حال قرّرت الإدارة الأميركية انطلاقاً من تكثيف وجودها في سورية مساومة ومقايضة روسيا على وجودها في شرق المتوسط في مقابل إنجاح مسار جنيف؟ سؤال منطقيّ ولكنه قد يبدو خارج سياقه الزمني، يقول قائل، فعلى ما يبدو أنّ خطوط التماس الجيوبوليتيكي بدأت ترتسم على أرض الواقع انطلاقاً من شرق المتوسط وليس انتهاء ببحر الصين الجنوبي.. وهذا يتطلب منا قراءة شكل الحلول انطلاقاً من هذه النتيجة المفترضة.. وهذا الأمر يجعل من شكل الحلّ أمراً غير محسوم حتى في ذهنية الفواعل الرئيسية للأزمة، بانتظار حسم تلك الإجابات.
وأمام هذه الحسابات المعقدة للفواعل الخارجية للأزمة تظهر القيادة السورية هادئة ومتوازنة في حركتها السياسية، فخياراتها الكبرى والحاسمة لشكل الصراع وجذوره ما زالت بيدها، والتي من المحتم أنّها ستغيّر الحسابات الأميركية والتركية ولكن في حينها، وهو ما يعقّد ويصعّب الحسابات الأميركية الجديدة التي تدرك فاعلية هذه الخيارات.