الكتابة عن محمد البعلبكي… لا تفيه حقه
اعتدال صادق شومان
أن نكتب عن محمد البعلبكي في يوم رحيله الهادئ، كما هدوءه الذي عهدناه به.. وعن مهنته وصحبه وتاريخه.. عن مكانته ودوره في عالم الصحافة ونقابتها، والكتابة عن عالمه ومنتداه بما بات يشكل تراثاً إعلامياً بحدّ ذاته بما أخصبه في حقل الصحافة في إنشاء الأدب السياسي بفخامة بيان وقوة منطق بما عرف عنه من الركون إلى المقالة الرشيقة يسقط عنها لغواً ويضيء منقبة ويفضح مثلبة. وهي أحياناً محض عاطفية لا تخلو من بث رجاء ورفع دعاء.
أن نكتب عن محمد البعلبكي المثقف المتعدّد المواهب في الكلمة والمعرفة والثقافة والفكر ومؤانسته النبرة والفصاحة واللغة الديبلوماسية الهادئة على شمول ولطافة ودفق مرونة من غير انزلاق.
أن نكتب عن العقلانية في الفكر وفي السيرة الشخصية وفي الاجتهادات فى ميادين متعدّدة من المعرفة، في الفكر العلماني كما فى الفقه الديني بارتقائه الروحاني للمفاهيم الدينية إلى جانب علم اللغة وعلم التاريخ.
قد لا نفي الرجل حقه، وقد عاش ردحاً من زمانه بيننا واختزنت ذاكرتنا عنه الحكايا الطويلة أجملها حتمية التفاؤل في أساريره ورؤياه وفي رفضه للتشاؤم باغضاً له، حتى في أشد الظلمات طغياناً، فاللقاء معه دوماً مؤثر بذكريات حلوة وحارة..
هو المتجذر في تراثه الديني من دون انغلاق، ولديه من المناعة ما يحمي أصالته. وفي فهمه الحقيقى للدين ولقيمه الروحية وفى الاعتراض على كلّ أنواع الخرافات والبدع التي أُدخلت تعسفاً على الدين فكانت عائقاً أمام تقدمه بمحدوديتها السائدة، ومفترضها التقليدي، من القيم والأفكار الجامدة، واستمر فى تميزه ذاك حتى آخر العمر يُوحِّد بين الدين والنضال السياسي والاجتهاد المعرفي في مفارقة مدهشة، ليبقى بذلك منسجماً مع نفسه، جليلاً في مساره بعكس تلك الشخصيات، التي اختارت رفض الاختلاف أو المغايرة.
وها هو يرحل متحسِّراً، ليقينه أنه خلف وراءه زمناً آخر لا ينتسب إلى زمنه. وقد كان الشاهد على عصر ثري متسّع من التنوير والمعرفة.. عزّ عليه أن يشهد قبيل الرحيل عصر الظلاميات المتعدّدة.
ذلك الأستاذ الأنيق في حضوره وصوته ولكنته البيروتية المُحبّبة وتهذيبه و«شياكته» وتواضعه واحترامه للآخر..
لا يسع جريدة «البناء» في وداع رئيس تحريرها الأسبق محمد البعلبكي، إلا أن توقد في الذاكرة بعضاً من حكاياه مع الحزب في مرحلة خطر مديدة قبل أن يُلقى الحبل على غاربه..
ليبقى القول إنّ محمداً، بعد انفصال ذات البين مع «قنطرة يقينه» لم يتنكر للحزب أو ينقلب على إيمانه بسعاده وفكره، وبقي يردّد على مسامعنا: «أعرف أنّ الناس يسبغون على من يحبّون من العظام هالات تصل إلى حدّ التقديس، لكنّ أنطون سعاده يستحقها بجدارة. لم يكن رجلاً عادياً. كان عبقرياً بكلّ المقاييس». وبقي راسخ الإيمان بقضية ساوت كلّ وجوده. ورغم مستجدات الأحداث وتقلبات الزمان بقي الحزب على منبره، كما أفسح له الحزب المنابر على الدوام. ويعدّ مروره بالحزب مرور كبار يفتخر الحزب بهم مسيرة لا يمكن تجاهلها أو مجافاتها.
لا بدّ من وقفة كبيرة أمام تاريخ رجلٍ أقسم اليمين أمام سعاده في أحلك الظروف، أي لحظة إعلان سعاده الثورة القومية الاجتماعية وعلى بعد أربعة أيام من استشهاده.
وحسب محمد البعلبكي أنه هذه السيرة.. وكفى..
شخصيات عدة تركت بصماتها في حياته وهو حدَث، وساهمت في تكوين هويته الإعلامية والسياسية من مرحلة تحصيله المدرسي تلميذاً في «المقاصد الإسلامية « إلى شيخٍ مُعمّمٍ في الكلية الشرعية 1936 يؤم المصلين في عدد من مساجد بيروت ثم التخلي عن العمامة والانضواء في حزب «عروبي الهوى». كلّ ذلك قبل أن يعلن خروجه «من الشك إلى اليقين» ويكون «اللقاء» الذي غيّر مجرى حياته، وقد مهد لهذا التغيير في وجدانه وهو فتى مدرسه زكي النقاش أستاذ مادة التاريخ الذي كان يفتتح حصته الدراسية برسم خريطة الهلال السوري الخصيب على لوح الصف، لسبب بقي غامضاً لمحمد بعلبكي ورفاقه حتى انكشاف أمر الحزب السوري القومي الاجتماعي عام1936، واعتقال السلطات الفرنسية زعيمه أنطون سعاده وعدداً من قيادي الحزب بينهم النقاش، ومبادرة تلامذته إلى تنظيم استقبال حاشد له في المدرسة بعد خروجه من السجن. منذ ذلك الحين، يقول بعلبكي، «بدأت لوحة الحزب تأخذ حيزاً في مشاعري ولكن من دون أن أصبح جزءاً من ألوانها».
والشخصية الثانية هي الأستاذ نور الدين المدوّر مدرس اللغة العربية الذي اكتشف في تلميذه قوة التعبير بالعربية كتابة وتحدثاً. رغب له الصحافة مهنة له ودعاه إلى زيارة صحيفة «البلاد» لصاحبها يوسف الخازن والتي كان يصدر فيها المدوّر «مجلة الطالب»، فمضى محمد البعلبكي يتعلم تصحيح «البروفات» أو «تنضيد الأحرف» حرفاً حرفاً يبري الكلمة ويبلورها وصار من عُشّاق «كتاب المكشوف» حبة العقد في الصحائف الأدبية، إلى جانب تردُّده إلى بعض كبريات الصحف آنذاك مثل «اليوم» لآل الطيبي و«صوت الشعب» يحرّرها نقولا الشاوي وصولاً إلى رئاسة تحرير «العروة الوثقى» منبر العقيدة القومية العربية عند انتسابه إلى الجامعة الأميركية 1942 قبل أن يفتح له تقي الدين الصلح أبواب جريدة «الديار» ليتولى مهمّة سكرتارية التحرير، قبل أن يتخرج البعلبكي من الجامعة الأميركية في بيروت حائزاً شهادة في الأدب العربي بدرجة امتياز، ولكنّ المهنة التي وصفها له رئيس الحكومة آنذاك «سامي بك» الصلح بأنها مهنة «ما بتطعمي خبز» دفعت البعلبكي إلى مهنة التدريس في الجامعة الأميركية لمادة التاريخ وربما الجغرافيا ليكون أبرز تلامذته البطريرك أغناطيوس هزيم وغسان تويني ومنح الصلح وبهيج طبارة وسعيد فواز وعبد الرحمن الصلح وجبران حايك وأحمد الحاج وسواهم، من دون التخلي عن شغفه في الصحافة، لتكون له جريدة «كلّ شيء» عام 1947 مع سعيد سربيه كأول محاولة حديثة من نوعها في الحلة والإخراج والأهم أنّ محمد البعلبكي صار الآن سيد نهجه في جريدته، ليصبح همه طرح القضايا التي تعني الرأي العام وتثيره، وهناك ابتكر البعلبكي صحافة الأدب السياسي.
كلّ هذه الحقبة كانت قبل أن يجتاز البعلبكي أخطر مأزق فكري ونفسي يمكن أن يمرّ به صحافي، حين توجه وهو من حزب «النداء القومي» إلى أنطون سعاده مؤسس وزعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي طالباً إليه أن يكتب في «كل شيء» سلسلة مقالات ترفع الحجب عن الحزب وفي جريدة غير موالية له، لا بل معادية تتعهد مع ذلك أن لا تسقط سطراً ولا تبدل حرفاً مما يكتب وكانت المقالات في أخطر المواضيع «العروبة أفلست»، آملاً أن يستنفر ذلك الأقلام «العروبية» للردّ على كتاباته. ويقول البعلبكي: المفارقة أنّ منظّري القومية العربية أحجموا عن الردّ على مقالات «زعيم القومي»، رغم إلحاحه عليهم، إلا أنهم اختاروا أسلوباً هجومياً على البعلبكي لتشريعه باب صحيفته لسعاده بدل أن يشحذوا أقلامهم للردّ على سعاده.
وسقطت عروبة محمد البعلبكي بعد حرب فلسطين وقيام «إسرائيل»، وتحوّله من القومية العربية إلى القومية السورية الاجتماعية، ليؤدي قسم الانتماء قبل 4 أيام من استشهاد سعاده، أي في 4 تموز 1949، وللمفارقة كان اللقاء مع سعاده بعيد خروج البعلبكي من مقابلة صحافية مع حسني الزعيم من دون أن يدرك تآمره على سعاده ونيته تسليمه للسلطات اللبنانية.
تلقى البعلبكي خبر محاكمة سعادة وإعدامه باهتزاز في كيانه، فبكى كما لم يبكِ من قبل، ويروي أحمد شومان الواقعة بالقول: «أصيب محمد بنوبة بكاء شديد واهتزاز بجسده أوقعه عن مقعده». عند هذا الحدّ قرّر البعلبكي مواجهة السلطات اللبنانية من ميدان الصحافة، عبر استفزازها فعمد إلى نشر صورة لمنزل سعاده الذي كان قيد الإنشاء وكتب مقالاً بعنوان «وضع الأساس وارتفعت القوائم»، في إشارة إلى تحية القوميين الاجتماعيين بالأيدي المرفوعة على شكل زوايا قائمة. فجاء الردّ سريعاً من السلطات التي قضت بسجنه وتعطيل جريدته، ليبدأ ولا ينتهي تاريخ من العداء بينه وبين النظام الذي تآمر على سعاده، النظام الذي لم يملك في وجه الكلمة إلا المزيد من الكيدية وعمليات القمع التي لم تردع البعلبكي أو تبدّد اتهامه لهذا النظام باغتيال «زعيمه»، فعمد إلى استفزاز السلطات على الدوام تارة بنشره صورة في صدر الصفحة الأولى لأبي عفيف كريدية، أحد المقربين من رياض الصلح، وهو يجلس في أحد مقاهي ساحة البرج ضاحكاً ويدخن النرجيلة، وكتب تحتها: «أبو عفيف مبسوط»، ويؤكد البعلبكي أنّ الصورة أدت غرضها في إثارة سخط الشارع على الطريقة التي أجريت فيها محاكمة الزعيم وإعدامه. حتى أنه استهلّ «مانشيت» خبر الانقلاب على حسني الزعيم وإعدامه، بعد أشهر قليلة من تسليمه أنطون سعاده إلى السلطات اللبنانية، بمقطع من أغنية للشاعر الشعبي عمر الزعني التي تقول: «يا دايم الدوم كل مين إلو يوم»، ما دفع السلطات إلى محاكمته بتهمة التهديد وتمّ سجنه ثلاثة أشهر. وجد رياض الصلح «مكمش» على البعلبكي وجريدته إثر محاولة الاغتيال التي تعرض لها عام 1951 على يد الرفيق توفيق رافع حمدان، فرصة للاقتصاص منه فتمت ملاحقة البعلبكي بتهمة «الحضّ على كراهية رياض الصلح» وعقوبتها شهران ونصف شهر حبساً. لم تكن تلك الحادثة هي الفصل الوحيد في المواجهة بينه وبين الخائفين دائماً من سلاح القلم، فدوهم منزله البعلبكي بعد ساعات قليلة من محاولة الاغتيال، واقتيد إلى نظارة البرج. ثلاثة أسابيع أمضاها محمد بعلبكي مسجوناً من دون أن توجه إليه أي تهمة، أو يخضع لأي تحقيق، وكل مراجعات نقابة الصحافة لرياض الصلح لم تثمر ولم تحدّ من كيديته، ما دفع البعلبكي إلى إعلان إضراب مفتوح عن الطعام استمر عليه حتى تلقيه وعداً ببدء التحقيق معه خلال 48 ساعة. التحقيق عكس قهراً سياسياً ومهزلة قضائية «ما بعدها مهزلة»، كما يصفها البعلبكي نفسه حيث تمحورت الأسئلة حول آرائه السياسية المنشورة في صحيفته ولم تأتِ قط على ذكر محاولة الاغتيال. وعلى رغم ظلامية الموقف، لم يتمالك البعلبكي نفسه من الضحك عندما أبلغه المحقق أديب عفيش أنّ تهمته تكمن في أنّ توفيق حمدان قد اشترى نسخة من صحيفة «كلّ شيء» قبل ساعات من إطلاقه النار على رياض الصلح، وربما قرأ فيها ما دفعه إلى تنفيذ فعلته..
عن هذه المرحلة بالذات، أي منذ لقاء سعاده حتى استشهاده، تحدث النقيب الراحل محمد البعلبكي بالتفصيل إلى الكاتب والصحافي الصديق رؤوف قبيسي في حديث نشر في جريدة «النهار» عام 2013، لعله الأخير الذي أدلى به البعلبكي حول سعاده، وقدر لي أن أترافق والزميل قبيسي خلال الحديث الذي جرى في أكثر من لقاء.
أهمية الحديث أنه، ولأول مرة منذ اغتيال سعاده، يوجه الاتهام إلى الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز بالمشاركة في التآمر على سعاده مع الملك فاروق، وبناء على طلبه تمّ تسليم سعاده إلى السلطات اللبنانية لإعدامه.. اقتطف من الحديث الفقرات التالية:
يسأل قبيسي: يدفعني الفضول إلى معرفة رأي النقيب في «الزعيم». متى التقاه وأين، وكيف انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ومن هي الجهة التي وقفت وراء إعدامه؟
يجيب البعلبكي: «كان ذلك في العام1947 أي قبل عامين من مصرع سعاده. كنت في بيروت، وكان الزعيم قد عاد إلى لبنان من مغتربه القسري، وحضور حزبه في البلاد قد أصبح قوياً. كانت تربطني صداقة بالمحامي عبد الله قبرصي، أحد رفقاء سعاده الفاعلين في الحزب السوري القومي الاجتماعي. في أحد الأيام دعاني المرحوم عبد الله إلى سماع محاضرة سيلقيها الزعيم في مكان سرّي. ذهبنا إلى بناية قديمة في شارع بلس مقابل الجامعة الأميركية، ودلفنا إلى موقع يكاد يكون مهجوراً، في الطبقة الثالثة تحت الأرض. هناك شاهدتُ سعاده للمرة الأولى. كان يحاضر في الفكر القومي والجموع تصغي كأنها في معبد. هالني الحضور وهالني منظر الرجل. وجدتُ في حديثه شيئاً مختلفاً. فكره كان جديداً، وكذلك لغته وتعابيره. كان يشير إلى خرائط على الجدران، تحدّد سوريا الطبيعية، أو الهلال الخصيب بنجمته القبرصية. لم يكن كلامه عن الأرض والوطن إنشائياً، كحديث قادة الأحزاب الآخرى. كان يتحدث كعالِم، وكان جذاباً وساحراً…
كنت في تلك الأيام رئيس تحرير جريدة «كلّ شيء» العربية. بعدما استمعتُ إلى أنطون سعاده وعرفتُ شيئاً من أفكاره، طلبت إلى الصديق عبد الله أن يكلم الزعيم ليكتب مقالاً أسبوعياً في «كل شيء»، ووعدني الأمين عبد الله بذلك. تردّد الزعيم في البدء تخوّفاً من أن يكون في الأمر فخّ، إلى أن جاء يوم أخبرني عبد الله أنّ الزعيم وافق على الكتابة، لكنه اشترط أن تُنشَر المقالات من دون توقيع.
كانت «كل شيء» تصدر كلّ خميس، وكان الاتفاق مع الأستاذ أنطون سعاده كنت الوحيد الذي يدعوه الأستاذ بخلاف الآخرين الذين كانوا يدعونه الزعيم أن يرسل إلينا المقال يوم الثلاثاء، ثم نجتمع بعد ظهر الأربعاء للنظر في مضمونه، وما قد يجرّه عليَّ وعلى الجريدة من ذيول، ثم ننشره في اليوم التالي.
نشرنا المقال الأول من دون توقيع الزعيم وكان عنوانه «الحزب القومي حزب أجنبي»، وقد وضعه سعاده بنفسه، فأثار عاصفة من الغضب لدى القوميين الذين لم يدركوا القصد منه وهو نفي التهمة التي راجت عن الحزب على أنه حزب نازي. ثم توالت المقالات أسبوعياً مذيَّلةً بتوقيع سعاده، وذلك بعد إلحاح مني. على أثر نشر المقالات فُصِلتُ من «حزب النداء القومي» لأنّ المسؤولين فيه لم يرُق لهم أن يفرد عضو في الحزب صفحات جريدة يملكها لنشر أفكار حزب آخر، على الرغم من أنني قلتُ وكتبتُ غير مرة أنّ الجريدة مشرعة لكلّ الآراء، خصوصاً لمن هم أعضاء في «حزب النداء القومي».
استمرت الحال على هذا النحو، وبقينا نجتمع كلّ أربعاء، إلى حين غادر سعادة لبنان إلى دمشق في العام 1949، بعدما بدأت السلطات اللبنانية تلاحقه. وكانت الحكومة اللبنانية اتفقت مع حكومة حسني الزعيم على تسليم سعاده، وحين تسلمته حوكم على عجل وأعدم في الثامن من تموز 1949، في عملية كثيراً ما وُصفت بأنها موصوفة، وكثرت حولها الروايات، ولا يزال الغموض يكتنفها إلى اليوم».
تسألني رأيي في سعادة، يقول البعلبكي :
«أعرف أنّ الناس يسبغون على من يحبّون من العظام هالات تصل إلى حدّ التقديس، لكنّ أنطون سعاده يستحقها بجدارة. لم يكن رجلاً عادياً. كان عبقرياً بكلّ المقاييس».
تسألني متى انتميت إلى الحزب؟
«حصل ذلك وأنا في دمشق، وأقسمتُ اليمين أمام الزعيم، في حضور الأمين الراحل عبد الله محسن، وكان ذلك في الرابع من تموز 1949، أي قبل أربعة أيام من استشهاد سعاده».
وتسألني مَن أمر بإعدام سعاده؟
«أنقل إليك الرواية كما سمعتُها من الوزير الراحل حبيب أبو شهلا.
كان حسني الزعيم، رئيس الجمهورية السورية، هو الذي أمر بالقبض على سعاده. وعندما علم الملك السعودي بوجود سعاده في سوريا، اتصل بالملك فاروق وطلب إليه أن يتصل بحسني الزعيم للقبض على زعيم الحزب القومي، فدخل العاهل المصري على الخط بحكم العلاقة التي كانت تربطه بحسني الزعيم، الذي كان يكنّ للملك فاروق مودةً واحتراماً كبيرين. وكان حسني الزعيم قد هدّد بأنه سينقلب على المحور السعودي ـ المصري ويعود إلى المحور الهاشمي العراق والأدرن إذا لم يُعدَم سعادة قبل الفجر. كان حسني الزعيم يرمي من وراء إعدام سعاده إلى شيء آخر، هو اعتراف الحكومة اللبنانية بشرعيته رئيساً على سوريا، ضدّ حزب الكتلة الوطنية ورموزه الكبار، مثل شكري القوتلي وصبري العسلي وجميل مردم.
قُبض على سعاده في دمشق، واقتيد إلى لبنان مكبّل اليدين وحوكم وصدر الحكم بإعدامه. في الثامن من تموز، ليلة صدور الحكم، أُدخِل سعاده السجن، فيما كان رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري يعقد اجتماعاً طارئاً في القصر الجمهوري مع رئيس الوزراء رياض الصلح والوزير حبيب أبو شهلا، للنظر في مصير سعاده. وحين سأل الرئيس الخوري الوزير أبو شهلا رأيه، كان جواب هذا الأخير الموافقة على تنفيذ الحكم، عندها التفت الشيخ بشارة إلى رياض الصلح وقال له: «ما رأيك يا رياض بك؟» فجاء ردّ رئيس الوزراء مقتضباً: «ليس لديَّ ما أقوله يا فخامة الرئيس غير الموافقة على ما قاله معالي الوزير أبو شهلا!» انتهى الاقتباس .
الانقلاب .. والسجن وما بعده..
كان من شأن رئيس الحزب الراحل الدكتور عبدالله سعاده مع محمد البعلبكي أنه عندما شاء في العام 1958 «تشكيل هيئة للمجلس الأعلى من أصحاب الرأي والوعي الشامل القادرين على تقييم الأوضاع الحزبية والخارجية والتخطيط للعمل الحزبي الهادف والمسؤول من أصحاب الكفاءات»، وفعلاً مُنح الرفيق محمد البعلبكي رتبة الأمانة وانتخب رئيساً للمجلس الأعلى أوراق قومية وعند قيام الثورة اللانقلابية كان في هذا الموقع وهو من استشار المجلس الأعلى بقيام الثورة مكلفاً من رئيس الحزب. وفي التفاصيل، أنه فجر الأول من كانون الثاني 1962 وبعد احتفالات رأس السنة، استفاق الناس باكراً على أخبار وإشاعات تقول بوقوع انقلاب عسكري مفاجئ. وعلى وقع هذه البلبة صدرت جريدة «صدى لبنان» لصاحبها محمد البعلبكي وفي أعلى صفحتها الأولى خبر مفاده «أنّ حركة انقلابية قد جرت وأنّ ضباطاً من الجيش قد اعتُقلوا وسيقوا إلى جهة مجهولة».
في ليلة الانقلاب، غادر البعلبكي مكتبه في «صدى لبنان» متوجهاً إلى منزل الأمين أسد الأشقر في ديك المحدي، بعدما طلب من محرّريها وعمال المطبعة البقاء في حال تأهب في تلك الليلة استعداداً لخبر خطير. ومع تيقنه من فشل المحاولة الانقلابية فيما بعد، عاد إلى مكتبه في ساعات الفجر الأولى لينشر خبر المحاولة الانقلابية. فكان تفرد الصحيفة بنشر الخبر أن أعطاها أرقاماً غير متوقعة من المبيعات من جهة، وأشعل نيران غضب الرئيس شهاب والشعبة الثانية على صاحبها من جهة ثانية والتي هدّدت باعتقاله. وقد جاء من ينصح البعلبكي بتسليم نفسه إلى المدعي العام العسكري كون دوره اقتصر بعمله كصحافي على أن تدعمه نقابة الصحافة في حال توقيفه، وهذا ما حصل، فقام البعلبكي بعد أيام من المحاولة الانقلابية برفقة نقيب الصحافة عفيف الطيبي ونائبه زهير عسيران، واضعاً في اعتباره إمكان محاكمته بتهمة كتم معلومات ليس إلا، وهناك اختلفت المعادلة، فكان الاعتقال لتبدأ رحلة العذاب الطويل. فصول من الضرب والجلد وتعليق الأجساد، نالها البعلبكي ورفاقه في الحزب أثناء مراحل كان من نتائجها اعتقال ما يقارب 60 ألف مواطن واغتيال ثلاثين قومياً قضوا في المحكمة العسكرية.
المرافعة التاريخية..
ارتجل البعلبكي مرافعة وُصفت بالتاريخية استمرت على مدى يومين كاملين من المحاكمات، بتلك البطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة القومية الاجتماعية، «رافع» رئيس المجلس الأعلى محمد البعلبكي مدافعاً عن نفسه وعن رفقائه مفنّداً دوافع الانقلاب على مدى ثلاثة أيام من شهر شباط 1963 بلغة عربية ساحرة سليمة ممتلئة بالمفاهيم القومية السورية إلى جانب استعانته بإرثه الثقافي الديني الذي جيّره لصالح المرافعة وهي من الأهمية بحيث تحولت من دفاع عن النفس إلى محاكمة النظام نفسه وكافة رموزه لدرجة أنّ البعلبكي أحرج المحكمة ذاتها.
حُكم المحكمة حمل قراراً بالإعدام له، طبعاً إلى جانب آخرين من قيادة الحزب عبدالله سعاده، بشير عبيد، صبحي أبو عبيد، ديب كردية، مصطفى عزالدين، والضباط الثلاثة: فؤاد عوض، علي الحاج حسن، شوقي خيرالله .
سبع سنوات ونصف السنة قضاها البعلبكي في السجن ليخرج بعدها مع رفقائه بمرسوم عفو أصدره الرئيس شارل حلو عن المشاركين في المحاولة الانقلابية في العام 1969، لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع، وليستقيل البعلبكي من رئاسة المجلس الأعلى، بعد أن كان قد أعيد انتخابه في نهاية العام 1970، معللاً استقالته بـ «تعذر انسجامه» شاكراً الأمناء على انتخابهم له عضواً للمجلس الأعلى غيابياً».
وكان فراقاً لا افتراقاً.. ولم يفسد الاختلاف في الرأي في الودّ قضية.