المشترك بين العرب والكرد ضعفٌ مزمِن في قراءة التاريخ
د. وفيق إبراهيم
يثير العربُ والكردُ حنقَ الباحثين للأخطاء الاستراتيجية المتكرّرة التي يرتكبونها على مدار التاريخ، فيحتشدون ويحاربون من أجل مشاريع يتوهّمون أنّها لهم، ويكتشفون في النهاية أنّهم كانوا أدوات رخيصة في خدمة المشروع الغربي في المشرق العربي.
فكيف يصدّق هذان الطرفان أنّ الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأميركية يحرِّك رؤوس أمواله وجحافله العسكرية وأساطيله وأقماره الاصطناعية وقواه الجويّة ونفوذه السياسي من أجل تسليم المعارضات السورية الحكم في الدولة السورية، سواء المتشظّية أو الموحّدة؟ وكيف يسقط الكرد مرة أخرى في فخ وعود غربية بتأسيس دول كردية في سورية والعراق وتركيا وإيران، فيتحرّكون عسكرياً لتحرير الشرق السوري حيث ينتشرون! وللمزيد من «الإيقاع الغربي» بهم، فإنّه يستعملهم لتحرير «مدن عربية» لتوريطهم في عداءات لا تخدم مشروعهم بقدر ما تؤمّن تسهيلات للسيطرة الأميركية.
فهل يمكن لعاقل أن يصدّق أنّ واشنطن تبذل جهوداً جبارة لإيصال رياض سيف والحريري والبغدادي والجولاني والبرزاني ومسلم وأوجلان، إلى قيادات الدول؟!
إنّ العودة إلى مطلع القرن العشرين ومقارنته بأحداث اليوم، كفيلة بإظهار الضعف المزمن للعرب والكرد في الاستفادة من التاريخ، وصولاً إلى حدود إنكاره تماماً.
اتّخذ الغرب الأوروبي قراراً بإنهاء الدولة العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر، لكنّه أرجأ التنفيذ لاختلاف دوله على المحاصصة، وعندما استشعر البريطانيون بوجود البترول في جزيرة العرب منذ أواخر القرن 19، باشروا بضرب الدولة العثمانية من الخاصرة العربية، واتفقوا مع شريف مكّة المكرمة الحسين بن علي، على تجنيد العشائر العربية في الجزيرة وبلاد الشام لمهاجمة الجيش التركي، وأغروه قبل 1915 بموافقتهم على وضع الشريف على رأس مملكة تضمّ الجزيرة وبلاد الشام والعراق حتى اليمن.
لذلك، أدّى العرب دوراً عسكرياً كبيراً نجح في طرد العثمانيين حتى حدود مصر، وبالتزامن كانت بريطانيا العظمى تنسج شبكة معاهدات تخالف مع ما اتفقت عليه مع شريف مكة وتتحاصص المناطق العربية والكردية مع فرنسا وروسيا القيصرية في معاهدة سايكس بيكو 1916. وأعقبتها في 1917 بوعد بلفور الذي وهب فلسطين لليهود.
لكن الثورة البلشفية التي أسقطت في 1917 القيصرية في روسيا، رفضت أي مشاركة لها في تحاصص المنطقة العربية، وكشفت للعرب أمر معاهدة سايكس بيكو. وبكل براءة، سأل الشريف الهاشمي المعتمد البريطاني لديه عن موضوعها، فنفى وصدّقه الهاشمي بنيّة طيّبة كالبسطاء الدراويش. وكانت النتيجة أنّ بريطانيا العظمى لا تريد مملكة عربية موحّدة، بل دويلات. لذلك دعمت آل سعود وخليفة والصباح وثاني لتقسيم الجزيرة باستثناء بلدين تاريخيين هما عُمان واليمن، حافظت عليهما كما كانا.
لقد داست بريطانيا وفرنسا على كلّ المشاعر القومية للعرب، وأخمدتا كلّ الانتفاضات التي اندلعت في ميسلون 1920 والعراق وفلسطين. وأنشأتا كيانات لا أسس تاريخية لها في كامل المشرق العربي، كما دعمتا إنشاء دولة لليهود على أراضي فلسطين في 1948.
وكانت الهزيمة السياسية والعسكرية من نصيب المشروع الهاشمي، لأنّ بريطانيا دعمت آل سعود في لعبة القضاء عليهم في الحجاز. وحاولت منحهم ملكاً في سورية، لكن فرنسا طردتهم، فأعادوا الكرّة في العراق وفشلوا. فشكّل الأردن الحالي ملاذاً لهم اقاموا عليه مملكة ليس لديها موارد اقتصادية، فأصبحت دولة تؤمن وظائف للغرب ودول الخليج، وتتقاضى تعويضات للعيش.
أمّا الشريف حسين، فخرج منفياً إلى قبرص وهو يقول «لعن الله الإنكليز».
لجهة الكرد، فهناك تماثل مريب.. حرّكتهم بريطانيا فاقتتلوا مطلع القرن الماضي مع الأشوريين والعرب والمسيحيين، محاولين ضرب الترك بتوجيهات من البريطانيين الذين اعترفوا بحقوقهم القومية في اتفاقية سيفر 1920.
لكنّ الحرب التي فتحها أتاتورك على البريطانيين والفرنسيين والأكراد واليونانيين، أدّت إلى معاهدات في 1926 في أنقرة وفي 1923 في لوزان، تجاهلت فيها المملكة التي لا تغيب عنها الشمس الحقوق الكردية ونسيتها تماماً في انسجام كامل مع الموقف التركي ومحاولة لاسترضاء أتاتورك.
ولبريطانيا أدوار كبيرة في إخماد سلسلة انتفاضات كردية أخرى بين 1915 و1924. أمّا آخر محاولة في تلك المرحلة لإعادة إنعاش المشروع الكردي، فكانت في انتفاضة الكرد الإيرانيين في مهاباد، حيث أنشأوا جمهورية لهم في 1946.. وأخمدتها بريطانيا أيضاً.
ويتوزّع الأكراد في المنطقة مشكّلين 15 في المئة من السكان في العراق و10 في المئة في سورية و7 في المئة في إيران، وبين 15 إلى 17 في المئة من تركيا. ومعظم مناطقهم هي أراضيهم التاريخية التي وجدوا عليها قبل إنشاء الدولة العثمانية في القرن الرابع عشر وسيطرتها على القسطنطينية في 1953.
يتّضح إذن أن بريطانيا وفرنسا استعملتا المشاعر القومية للعرب والكرد وباعتهما عند انتهاء الدور. وما يجري اليوم ليس بعيداً عن الأحداث القديمة، فالولايات المتحدة وريثة أوروبا، أعادت تحريك «مشاعر إسلامية» لدى فئة من العرب، واستعملت السعودية وتركيا لتنظّيمهما وتحريكهما. وبالنتيجة نحن اليوم أمام أفغانستان ضائعة ويمن مدمّر وسورية متشظية وعراق مهشّم ومصر مرعوبة وليبيا خارج التاريخ وتونس مضطربة وسودان مذعور وأردن متوسّل وعالم إسلامي ينبطح أمام واشنطن طلباً لرحمتها. وفلسطين التي التهمها التنين اليهودي بكاملها، مع نحو مئة وخمسين ألف إرهابي دخلوا إلى سورية والعراق بأعلام الوهابية الشبيهة بالهاشمية القديمة من خلال الحدود التركية والأردنية وبرعاية الأقمار الصناعية الأميركية والجيوش التركية والأردنية و«الإسرائيلية».
ولعبت واشنطن الدور نفسه في العراق، فدعمت الأسس البنيوية لكانتون كردي كبير فيه، وحمته بحظر للطيران وقوات وقواعد أميركية مباشرة. فهل يفعل الأميركيون ذلك حباً بالأكراد أو لتقسيم العراق؟ أحبّاً بالكرد في سورية أو لتقسيم سورية؟ وها هم يحاولون الأمر نفسه في إيران، فيشجّعون الكرد فيها على تأسيس ميليشيات وتنفيذ عمليات.
لجهة العرب، فإنّ ما تفعله الهيئة العليا للمفاوضات في سورية وهيئة التنسيق ومئات التنظيمات التكفيرية تشابه ما فعله الوهابيون في جزيرة العرب في مطلع القرن العشرين بمعونة المخابرات البريطانية من قتل وسبي وتدمير، لم يوفّروا منها مدناً في جنوب العراق والحديدة في اليمن.
والمتعمّق في التاريخ، يرى المشاهد تتكرّر… الإرهابيون يذبحون الناس من إيزيديين ومسيحيين وشيعة وسنّة، لمجرّد الاختلاف السياسي والديني.. أو للسببين معاً.. كما كان يفعل آل سعود في جزيرة العرب ويرى أيضاً أنّ المستعمر هو نفسه، إذ كان الغرب الأوروبي متمثّلاً بفرنسا وبريطانيا وورثتهما الولايات المتحدة الأميركية بمرجعيّتها الأحادية. لذلك يتوجّب طرح السؤال التالي: ماذا تريد واشنطن من منطقة الشرق الأوسط؟ ولماذا تقبل أداء دور «أدوات» رخيصة في مشروعها؟
الواضح أنّنا نحن العرب والأخوة الكرد أدوات في مشروع تشظية المنطقة، نقتل بعضنا بعضاً، توهّماً بإمكانية بناء أنظمة ودول، وسرعان ما نكتشف أن ما نسعى إليه هي مجرّد «كانتونات داخلية» لها وظائف محددة في الزمن والجغرافيا تضمحل عند مجرّد تأمينها. إذ كيف يمكن لكانتونات كردية داخلية أن تستمر كدول راسخة من دون مخارج بحرية؟
وهذا يعني على الفور خضوعها للدول الحدودية المجاورة ذات الوجهات على البحار؟ وكيف تستطيع الكانتونات السورية «المغلقة» أن تواصل العيش السياسي من دون تواصل بحري؟ وهي محرومة أيضاً من مناطق اقتصادية وزراعية؟ والنفط والغاز فيها موزّع دولياً قبل نشوئها.
لعلّ هذه المقاربات توضح عمق المشروع الأميركي من جهة، وسطحية المعارضات السورية والعراقية من جهة ثانية، وكأنّنا أمام «لورنس العرب» الإنكليزي يعارض الشريف حسين الذي لم يخرج من مكة في حياته إلا منفياً إلى قبرص.
فهل يستيقظ أهل الكهف؟ مستوى انحراف المعارضين السوريين أصبح «عمالة»، وكذلك مستوى شذوذ المعارضين العراقيين الذين عبّر عنهم نائب رئيس الجمهورية العراقي النجيفي، الذي أعلن تأييده لدخول الجيش التركي إلى العراق بحجة أنّ إيران تمتلك نفوذاً فيه.
وأخيراً، هذا الضعف المزمن في القراءة إلى صلابة الجيش السوري وحلفائه لمنع التاريخ من تكرار صوره السيّئة. وهذا هو الحل الوحيد لمنع «لورنس الأميركي» من العودة إلى استيطان المنطقة العربية.