«ردّ القضاء»… عبقٌ من رائحة الشهادة
رنا صادق
«أويها يا جعفر فيك الموت يتهنّى
أويها حتى الكحل بعيوني وعلى الكفوف حنّة
أويها وبعرسك يا شهيد الروح زقفنا والموت غنّى
أويها يا عريس شيل هالغطا وارميه
أويها تحدّى عتم القبر اللي بموتك مضوّيه
أويها هالوجه دورة قمر والعين تغزّل فيه
أويها يا شهيد الروح دمّك تراب الوطن تسقيه».
زفّة «جعفر»، الشهيد في «ردّ القضاء»، جاءت كردّ على الظلم والاستبداد، بعتم الظروف وسيف القهر. حصار سجن حلب المركزي الذي استمر سنة ونصف السنة، تجسّد بفيلم هو الأوّل من نوعه، «ردّ القضاء».
ظروفٌ قاسية، جوع، برد، أمراض، موت وقتال، كلّها معاناة صمد أمامها الملازمون والضبّاط والمساجين خلال تلك الفترة. فدافعوا، قاتلوا، واستبسلوا وصمدوا في وجه الإجرام دفاعاً عن أرضهم.
«ردّ القضاء»، فيلمٌ ملحميٌ بطوليّ وحقيقيّ، جديرٌ بأنه أفضل ما يمكن صنعه لأجيال ولدت من رحم الحرب. هو كبحٌ للأكاذيب وترجمة الحقيقة. التوثيق الحقيقي لهذه البطولات التي تحدث على الأرض المقدّسة بدماء الشهداء، جعل من الدراما مقاومة من نوع جديد، وسلاحاً أقوى من الرصاص إن جاز التعبير. هذه الوقائع من خلال الدراما، ضمن إطار فنّي إنساني، تعرض قصة الشهيد الحيّ والشاهد على أحداث الحصار «حاتم عرب»، الذي أدّى دوره الممثل مجد فضَة.
حكاية ملحمية تاريخية، تنثر عبق الصمود لتكون للأجيال المقبلة فخراً وعزّة. حكاية «حاتم» التابع للشرطة السورية الذي خسر جزءاً من جسده دفاعاً عن أرضه بعد إصابة خطيرة، ليست بعيدة عن حكايات الأبطال والشهداء الذين شاركوا في الدفاع عن سورية. «حاتم» الذي وعد والدته ألّا يموت في السجن ووفى بالوعد، عاد بعد سنة ونصف السنة، كي لا يجد عائلته، فقد أُعدمت على أيدي إرهابيّي «جبهة النصرة».
كل ذلك جاء ضمن مشاهد منتاغمة بين الأمّ التي وضعت حكم حياة أولادها ردّاً للقضاء، والابن المحاصَر الذي يقاوم ضمن ظروفٍ قاهرة. وفي المشهد الأوّل تقول الأمّ لجارتها: «ما رح اسمح للحرب تاخد منّي ولادي». مشهدية لإرادة الحياة لدى كلّ أمّ سورية وجهّت أبناءها نحو الدفاع عن شرف الوطن في سبيل الحقّ. وسط هذه المشاهد، تستلقطك أنفاس القوّة والإرادة التي لا تنهزم ولا تركع ولا تهاب الموت، بل تريد الحياة، أيّ حياة؟ إنها حياة العزّ.
الإنسانية العالمية لا وزن لها، تلوح على طاولات الحوار لتوزيع الحصص على الدول، ويغفل عنها أنّ التاريخ يسجّل ويوثّق.
نحن نحتاج إلى هذه السينما السورية، التي لا تبرّر الإرهاب ولا تلطّفه.
«هاي الحياة ما فيها لا منطق ولا عدل.
فكّر فيها، القتل قتل، بغضّ النظر عن الدافع.
بس الأمور نسبية، فيك تكون مجرم وفيك تكون بطل.
حسب القضية«.
راية العزّ ترفرف فوق سجن حلب المركزي، ضمن إطار فنّي إنساني استطاع من خلاله المخرج العالمي نجدت اسماعيل أنزور أن ينقل هذا الصمود وهذه الوحدة بين فئة الضبّاط والمساجين، حين طلب أحد المساجين مشاركة الضبّاط أثناء عمليات الدفاع عن بقاء السجن قائلاً:
«طالعوني خلّوني قاتل معكم، ما عاد فيني أقعد هون وآكل خبز مغمّس بدم الشرطة والجيش».
يثير أداؤه عجب المُشاهد في قدرة تمثيلية عالية من خلال أسلوب مفعم بالأمل.
أدّى الممثل مجد فضّة دور «حاتم عرب» على رحاب المثالية. هو السرّ في الشخصية حين يؤدّيها الممثل، فالجانب الإنساني قادر على الوصول إلى الناس بسهولة على قدر ما يكون هذا الأداء واقعياً وقريباً من الناس، بعيداً عن الرسالة المسيّسة، سواء من يحارب أو يعيش الحرب الكلّ داخل الخنجر، والكل يعلم معاناة الآخر.
«حاتم عرب» قاوم الموت بكلّ جدارة بعدما أصيب بقذيفة أطلقتها دبّابة تابعة لـ«جبهة النصرة». وتميّز أداء مجد فضّة بخفّة اللهجة وقربه من المُشاهد، واكتسب إعجاب المشاهدين.
«جعفر» الملازم أول الذي يؤدّي دوره الممثل لجين إسماعيل، خرّيج معهد التمثيل منذ حوالى سنتين، استطاع إضفاء نكهة خاصة وأثراً خفيفاً وتفاعلاً قوياً معه عند استشهاده. هو الملازم الشجاع المتعلّق بجذور أرضه حتى الهلاك. هذا الحصار جزء صغير من الحرب، ومما يحصل على الأرض السورية كما يشير اسماعيل. يحضّر إسماعيل حالياً عملاً جديد بعنوان «ماء ورد» سيعرض في السادس والعشرين من الشهر الحالي، ويقول في فيلم «ردّ القضاء»: «هاد السجن قطعة من أرض هالبلد. ما رح نطلع منها لتطلع آخر روح فينا».
الفنان ليس مشاهداً، بل هو صانع للتاريخ ومشارك فيه، لا بدّ من تخليد الحقيقة بأطر فنية، فدور الفنان السوري اليوم هو التغيير والتصحيح. التاريخ مشوّه ومزّيف. وجاء «ردّ القضاء» نقلاً مباشراً على لسان الأبطال.
هذا الفيلم الذي لاقى حصار على عرضه في السينما اللبنانية لأجل حسابات سياسية ليست مخفيّة بل واضحة، جاء ضمن إخراج ضخم، رغم التحدّيات والحسابات لكبح هذه الأنواع من الأفلام لكن الحقيقة لا يمكن إخفاؤها، وإن أخفيت فإن الزمن غير قادر على حملها، لكن أبطال «ردّ القضاء» لم يعتمدوا على الزمن الذي يوثّق، لأن تاريخ الأزمان إن وثقّ شوّه، وإن مرّ الزمان عليها يزيد احتمال اكتسابها.
وتبقى الإشكالية هنا، إلى متى سنظلّ شعوباً غافلة عن الحقيقة؟ ألم يحن الوقت للاستجابة إلى نداء القومية والمشاركة في صنع حقيقة الإرادة وصمود الشعب السوري؟