في تلك الليلة… حدث زلزال عظيم
يكتبها الياس عشي
المكان: مدينة اللاذقيّة.
وأنا في العاشرة من عمري، وشمس تمّوزَ تلفّ المدينة بسوار ذهبيّ حارق، وتترك وراء كلّ بيت فسحة من الظلّ، ثم تنحسر معانقةً البحرَ
حزين هو البحر هذا المساء،
وأنا ما زلت في عمر العاشرة، أعدو في شوارع اللاذقيّة أو في حاراتها، أتسلّق جداراً هنا أو شجرة من المشمش كانت مزروعة في ساحة دارنا. وكثيراً ما كنت أهرب إلى الشاطئ حيث للرمل طعم آخر، وللصخور لغة خاصة، وللمياه المالحة حضور يبدأ في الذاكرة ويستمرّ إلى الآن.
مدينة اللاذقيّة كانت يومها صغيرة، ودافئة، وجميلة، ومسكونة بالضوء والأزرق وأحلى سنوات العمر. لياليها أسمار تتسلّل من حيّ إلى حيّ، ومن نافذة إلى أخرى. كانت المسافات بين الناس قصيرةً فعرفت، وأنا الفتى اليانع، أنّ هناك أحزاباً، وأنّ اليهود اغتصبوا فلسطين وشرّدوا أبناءها، وأنّ العرب خاضوا حرباً، وأنّ خياناتٍ قد حدثت فخسروا الحرب.
مدينة اللاذقية تغمض عينيها وتُبحر بحزن،
والليل، في الثامن من تموز، متفجّع كئيب فالنجوم تُصرّ على البكاء، والقمر لبس غمامة سوداءَ وراح يهوي.. ويهوي.. إلى أن سقط في الفراغ.
وأنا في العاشرة من عمري أتعقّب الهمساتِ الهاربةَ من بعض النوافذ، فتتركني الهمساتُ حزيناً.
عرَفتُ، قبل اليوم، كيف أغضب..
عرفت، قبل اليوم، كيف أبكي..
لكنني، اليوم، حزين.. حزين.. حزين.
أتعرفون كيف الأطفالُ يحزنون؟
حزنهم قصيدة تبدأ بدمعة، ولا ينتهي وجعها إلى الأبد.
حزنهم هو حزن البلابل عندما تجرحها الأشواك.
ـ لقد قتلوه…
ـ على رمال بيروتَ، وقبل أن يتسلّل الفجر، قتلوا أنطون سعاده.
ـ لم يحاكموه.
ـ حكموا عليه.. لم يحاكموه!
ـ قتلوا رجلاً كان قضيّة.
أيتها الآلهة خذي بيدي.. ساعديني كي أفهم هذه الهمساتِ الهاربةَ من الأفواه، الحزينةَ حتّى الموت
أيتها الآلهة.. لماذا لا أفهم، ورغم ذلك فأنا حزين!
شوارع اللاذقية تغَصّ بشباب ورجال
تجمّعوا حلقاتٍ
منهم من كان يلوّح بقبضته
منهم من كان يبكي
ومنهم من كان يحدو:
ـ لمن الحياة يا أبناء الحياة؟ ويأتي الجواب: لنا.
ولمن نحن؟ وبصوت واحد: لسورية.
ومن هو زعيمنا؟ وبصوت هادر: سعاده.. سعاده.. سعاده.
أيّتها الآلهة… انظروا كيف تصبح الكلمة ملحمةً، وكيف يتحوّل طعم الحرف إلى ما يشبه الحريق.
ما معنى ما يقوله أولئك الكبارُ همساً وجهاراً؟
ولكنّني في العاشرة وأنا حزين.. حزين،
أضع رأسي بين يديّ، وأستند إلى جدار كان مسرح شقاوتي.
من قبلُ، كنت أتسلّق جداراً هنا، وشجرةً هناك، أمّا اليوم فرأسي غارق بين يديّ الصغيرتين، أحاول أن أجد تفسيراً لما يجري الآن حولي.
وتمرّ السنون، وتمّحي من ذاكرتي أشياءُ كثيرةٌ، إلّا تلك الليلةَ التي حدث بها الزلزال العظيم.
والطفل الذي لم يفهم ماذا جرى، راح يتعرّف ويتقصّى، فما مضت سنواتٌ إلّا وكان فكر سعاده الجمرةَ التي أضاءت له طريق الحرّيّة والمعرفة وشرف الانتماء.
كلمة ألقيت قبل سنوات في احتفال بيوم الفداء 8 تموز وأنشره مجدّداً نزولاً عند رغبة بعض الرفقاء.