إعادة الإعمار
إعادة الإعمار
ثالوث الأقانيم… بين التعظيم والتقزيم
وثالوث المفاهيم، بين العميق والعقيم، وسوء الفهم الجديد والقديم. لطالما كان لكلٍّ من الأقاليم أقانيمه العاصمة، التي ينالها ما ينالها من تعظيمٍ أو تقزيم وتقسيمٍ وتهميشٍ وتهشيم، وكذا دمشق العاصمة وثالوث أقانيمها، بردى اليتيم، الغوطتان، وقاسيون العظيم.
وكان، بالمقابل، لكلّ عمرانٍ ثوابت ومفاهيم، ينالها ما ينالها من تأويلٍ عميقٍ أو عقيم. وعليه، لربّما كان أوّل، وأولى ما وجب تفكيكه، ومن ثمّ إعادة بنائه بشكل سليم، هو تلك المفاهيم والمنطلقات الفكريّة التي لطالما ارتكز عليها خطابنا المعماري المحليّ، سياسةً، ممارسةً، ودراسة، لما عانته وتعانيه من سوء فهمٍ بنيويّ وجوهريٍّ في صميم الصميم، وكذلك من سوء استخدام عميم. بداية الثوابت تلك كانت ثالوث «الهويّة» و«التّراث» و«الأصالة»، قبل أن يتمّ إلحاق وإقحام مفهوم المعاصرة والحداثة في تلك الثلاثيّة في محاولةٍ توفيقيّة، تلفيقيّة ترقيعيّة لإضفاء صفة الحداثة أو الحداثويّة والتقدّميّة على الخماسيّة المستحدثة، ربّما لاسترضاء جمهور الحداثة من الشباب ولنفي الصّبغة الماضوية التي لطالما طبعت طريقة فهم وتقديم ثالوث المفاهيم ذاك.
في الواقع، لطالما شكّل سوء فهم تلك المفاهيم السبب الرئيس، أو بالحدّ الأدنى، أحد أهمّ أسباب تراجع وتردّي المنتج المعماري والعمراني المحلّي، النظريّ أو التنظيريّ، والمنتج العملي والتطبيقي بطبيعة الحال، ولطالما تكدّست بل وتكرّست حتى تقدّست التفسيرات الخاطئة لتلك المفاهيم بحيث تحوّلت بحدّ ذاتها إلى مسلمّاتٍ إجتراريّة مستعادة غير قابلةٍ للمساءلة والتحليل والتفكيك وإعادة النظر بها رغم كلّ ما حفلت به من مغالطاتٍ، ومفارقاتٍ، بل وتناقضاتٍ شتّى، إن على الصعيد اللغويّ، أو الفكريّ، أو المفاهيمي. وفي حين كنّا ولا زلنا نصبو لاستثمار الفرصة أي فرصة إعادة الإعمار، من أجل تقييم، وتقويم ذلك المسار الفكريّ العقيم، وإعادة النّظر جذريّاً بفهمنا الخاطئ والمنقوص، بل والمعكوس أحياناً لتلك المفاهيم، ومراجعة ومعالجة سوء الفهم ذلك، والمستمر على مدى عقودٍ طويلةٍ، نجد أنّ بدلاً من ذلك، نفاقم سوء فهم مفهوم الحداثة ليتحوّل إلى سوء فهمٍ مزدوج يعزّز الخلط ما بين المفاهيم بما يعبّر أبلغ تعبير عن هذا التحوّل الفكريّ الذي يبدأ أول ما يبدأ في قطاع التعليم ولا ينتهي عنده قبل أن يتمّ التعميم على سواه. وإنّ لمن المفارقة الغرائبيّة أنّ سوء فهمنا السابق لمفهوم الحداثة، والذي تمثّل في العمارة بإعادة إنتاج أسوأ دروس المدرسة الحداثوية الإشتراكية والبروليتاريّة الشعبيّة، تخطيطاً وتنظيم، وتصميماً وتعليم باسم التقدميّة، وسرعة، وحجم الإنجاز وتوفير الموارد يتحوّل اليوم، أو يكاد، إلى النقيض منه، إلى سوء فهمٍ جديدٍ يتمظهر بحملة تبشيرٍ بحداثويّة معماريّة «نيو ليبراليّة» مستوردة تستلهم في المعمار الأنموذج الرأسماليّ والعولميّ المتوحّش الذي ينتشر من، وفي مدن الملح والغبار!! فكيف يستوي في البناء أن يجتمع على ذات الأرض وتحت ذات السماء، الأنموذج البروليتاري بأسوأ إصداراته مع النموذج النيوليبرالي أيضاً بأسوأ إصداراته؟ وتتبدّى نذر نسخة سوء الفهم الجديد بأدبيّات الحملات الدعائيّة والترويجيّة المرافقة للمشاريع العمرانية الكبرى المزمعة هنا وهناك، وبقرابين الأضحيات العمرانيّة التي تسفح على مذبح النيوليبراليّة المعماريّة المستنسخة «خليجيّاً» والمتمثّلةً بصروحٍ شائهة فارهة، وأصنامٍ تحاول أن تطاول قاسيون، وأن تتطاول عليه، وعليه، يأتي بذلك سوء الفهم الأخير ليأتي كما نخشى على ثالث الأقانيم، ثالث ثالوث دمشق الشهير والعظيم وما أدراك ما مكانته بالنّسبة لها بعدما أتى سوء الفهم الذي سبق وبكلّ أسف على أوّل، وثاني تلك الأقانيم، بردى اليتيم، والسقيم، وغوطته أو ما كانته ذات زمنٍ قديم.
سنان حسن