متى يتحرّر الإعلام العربي؟
د. وفيق إبراهيم
اختفاء الإعلامي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده السعودية في تركيا، يفتح سؤالاً كبيراً عن الأسباب التي تمنع تطوّر إعلام عربي ينتقل من الاستسلام الكامل للرواية الرسمية الحتمية، إلى مستوى التعبير الصادق وربما النسبي عن التفاعلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
فالتستر الإعلامي على الاختطاف السعودي للخاشقجي ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير.
إنَّ الميزة الأولى للإعلام العربي أنه خطابي يتصرف بالخبر حاملاً «أبوية السلطة على المجتمع»، ولا يعكس إلا وجهة نظرها متجاهلاًً كلّ ما يسيء اليها ومخترعاً قصصاً جديدة للتفسير، تستند الى مفهوم مصلحة الدولة بتنوّعاتها الملكية والأميركية أو الجمهورية، وفقاً لمفهوم السمع والطاعة وتزوير الحقائق وتجاهل الأحداث، وذلك لعدم وجود منافسات حقيقية على كسب الجمهور المنَوَّم.
في المقابل هناك إعلام غربي، متعدّد ومتصادم يقدم الأحداث وفق الخلفيات السياسية والاقتصادية التي يعمل لها، إنما بمهنية محترفة توحي وكأنه «حُرّ». أيّ أنه يترك مساحة مفتوحة لها وظيفة جذب «الزبون» من القراء والمشاهدين والمستمعين.. وبعد التمكّن منه، بهذه الوسيلة، يكون قد احتواه وأسره ضمن تسعين في المئة من مواده الإعلامية المليئة بالروايات الموالية لأصحاب التمويل السياسي والاقتصادي.
إنّ خصائص الإعلام الغربي التي تجعله ناجحاً تقوم على ثلاثة أسباب، السرعة في نقل الخبر وهذا مردّه إلى شبكات مراسلين ضخمة أو وجود أنظمة تعاون مدفوعة مع شبكات محلية، ضمن «دول الأحداث». أما الثاني فقدرته على تخصيص «مساحة حرية صغيرة» يقدّم فيها الرأي الآخر»، لكنه يتفنّن في عرض آراء مواكبة بوسعها زعزعته.
أما الميزة الثالثة فسببها أنّ الإعلام الغربي ينتمي إلى أنظمة سياسية واحدة، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي 1989، تحتوي على أحزاب موالية وأخرى معارضة.. إنما من ضمن النسق السياسي الواحد.
والطرفان يمتلكان أو يهيمنان على وسائل إعلام ضخمة لها القدرة على تمويلها، وتجسِّد وجهتي نظرهما في داخل بلدانها أو إقليمها الغربي ـ الأوروبي ـ الأطلسي، وهناك وسائل متخصّصة للتأثير على الصين وروسيا واليابان والشرق الأوسط بشقيه الإسلامي والعربي.
وهكذا نجد أنواعاً من إعلام كوني غربي يتنافس على كسب أسواق السياسة والاقتصاد ويمثل موالاة أو معارضة، غربية تنتميان إلى الأنظمة السياسية نفسها ولا تخرجان عنها… أين الخلاف إذاً؟؟
يرتكز الخلاف بينهما على صراع مفتوح للسيطرة على أنظمة بلادهما وفقاً لصراعات حزبية داخلية هي مثلاً بين حزبي المحافظين والعمال في بريطانيا والجمهوريين والمحافظين في الولايات المتحدة الأميركية وبين التيارات المتأمركة في فرنسا وبقايا الديغولية وبين أحزاب اليمين والوسط واليسار في المانيا وهكذا دواليك.
هذه الآليات الحزبية تهيمن على إعلام معظمه كوني، يجسَّد وجود موالاة ومعارضة ضمن النسق السياسي الغربي الواحد. هذا إلى جانب وجود إعلام محلي أكثر تخصّصاً بالأوضاع الداخلية لهذه البلدان.
لقد أنتج هذا الوضع المرتكز على أسس محمية بالقوانين الغربية، أنتج مساحتين اثنتين للتعبير بحرية، إنما من ضمن «المصلحة البعيدة للمموِّل».
الأولى هي «المساحة التقنية» التي تستعملها وسائل الإعلام لجذب «الزبون» عبر تقنية الإكثار من «الرأي الآخر».
هناك مساحات حرية أكبر أيضاً، يستمدّها الإعلام من الصراع المفتوح بين الموالاة والمعارضة في أنظمة الغرب، وهي حريات تستند إلى حماية قانونية لا لِبسَ فيها، ما يسمح لهذا الإعلام بعرض قدراته الواسعة على عرض ما يريد، إنما يرتكز دائماً على احترافية عالية في نسف الرأي المضادّ بمهارة ومهنية، يرقى عمرها إلى ثلاثة قرون على الأقلّ.
هذه هي الأسباب التي تجعل «زبون الإعلام» منجذباً إليه في كلّ وقت، يصغي إلى نشرات أخباره وبرامجه باهتمام، وهو لا يعرف أنه تأثر بهذا المضمون من دون أن يدري.. وبما أنّ هذا الجذب الإعلامي متكرّر فإنه يعتمد على الإكثار من التكرار بلغة تسامحية وعقل علمي ضمن ما يشبه أسلوب السرد القصصي الموجز والجاذب.
ماذا عن الإعلام العربي؟ باستثناء لبنان حيث الحريات الإعلامية فيه تتموضع على الصراعات بين مذاهبه وطوائفه لتحسين أدوارها في السلطة وذلك عبر مسألتين: التحشيد الداخلي، وإنتاج رسالة إعلامية موالية للداعم الاقليمي والدولي.
باستثناء لبنان هذا، تسيطر على الإعلام العربي حالة من الهزال والضعف ونقص في الاحتراف على المستوى المهني، أما سياسياً، فنتيجة لعدم وجود معارضة ضمن النظام نفسه أو من خارجه، يعرض هذا الإعلام صورة خطابية نمطية تعيد فبركة الأحداث وبشكل بديهي على أساس مصلحة السلطة الداخلية السياسية، وتحالفاتها الدولية.
وبغياب المنافسة بين قوى سياسية داخلية، لا يعود الإعلام بحاجة إلى محترفين يتقنون فنون الخبر، ولا يهمّهم السرعة في عرضه.. فما هي إلا رسالة إعلامية عارضة لا تترك أثراً في متلقيها ولا يجد صانعها نفسه في وضع المضطر لإحداث معالجات عميقة لها.. وهكذا نجد إعلاماً عربياً منافقاً بعيداً عن مميّزات السرعة في إعلام العصر، وأساليب جذب الزبون، والصناعة الإعلامية البراقة.. هناك آليات بليدة ترسل أخباراً أشبه بخطابات عن أدوار بطولية لملوك وقادة ورؤساء يجري تقديهم على أساس انهم متمسكون بكلّ التفاعلات الداخلية والخارجية والحياة والموت.
إنّ غياب المعارضة حتى تلك المنتمية إلى الأنظمة السياسية نفسها، هي السبب في أزمة الإعلام العربي.. لأنها تلغي مساحات للحرية، فيصبح بموجبها خاشقجي رجلاً «مختلاً» انتحر واختطف نفسه او قتلته جهة معادية لآل سعود، كما تحوَّل حق قيادة المرأة للسيارة في السعودية أهمّ من الثورة الصناعية..
هناك مئات الأمثلة التي تثبت أنّ الإعلام العربي يشبه البلاغات التي كانت تعلقها الممالك القديمة في الساحات العامة.
لكن ما يؤسف له أنّ هذا الغرب الأميركي والأوروبي، يقف بتأييده وراء هذا التخلف الإعلامي العربي بشكل غير مباشر، لأنه يدعم الدكتاتوريات مُسهّلاً لها أمر القضاء على المعارضات. فهل يتطوّر الإعلام العربي؟ هذا الأمر مرتبط بتطوّر الأنظمة الاوتوقراطية ـ الديكتاتورية.
إنَّ مثيلاتها الغربية سقطت بثورات شعبية، فمتى تصل إلينا؟