في المعاني الحقيقيّة للعروبة /1
جورج كعدي
من أكبر «إيجابيّات» الحرب الغربيّة ـ العرب صحراويّة ـ التركيّة على بلاد الشام، لو سلّمنا على طريقة هيغل بإيجابيّات للحروب، أنّها أسقطت في الضمير الفرديّ والجمعيّ لأهل هذا الوطن السوريّ المتألّم والمنكوب اليوم مفهوماً لـ«العروبة» كالذي تظهّره «جامعة عربيّة» منتهية الصلاحية، عديمة المبادرة والتأثير، أو ترفع شعاراته الجوفاء دول خليجيّة ترتكب اليوم جريمة كبرى في حقّ سورية والعروبة الحقّة معاً، إذ وعى أهل الشام على انتمائهم الحقيقيّ والموضوعيّ لأمّتهم السوريّة التي بنى النهضويّ الرؤيويّ الفذّ أنطون سعاده أسسها القوميّة في عقيدة صلبة، متماسكة، ذات إسنادات تاريخيّة وسوسيولوجيّة وعلميّة وحضاريّة، إلخ، ناقضاً بالحجّة والبرهان كذلك افتراق العقيدة السوريّة عن تلك التي تنهض في شكل أساسيّ على رابطتي اللغة والدين، وهاتان الرابطتان في يقين سعاده ومعارفه العلميّة العميقة لا تشكّلان وحدة قوميّة حقّة.
في هذه المقالة التي أستهلّها اليوم وتتبعها أجزاء مقبلة، لن أقرأ في «كتاب واحد»، أي في فكر سعاده، وإن كنت سأختتم به، بل سأحاول العودة إلى بعض منابع هذا «الفكر اليعربيّ» أو «المشروع الوهّابيّ» الآتي من صحراء «العُرْبة» شعاراً ومفهوماً ومصطلحاً سال فيه ولأجله حبر كثير ورُفعت منابر وبُحّت حناجر… ليفضي في خاتمة المطاف إلى سقوط مريع، وليظهر أنّه ـ بالإذن من السيّد حسن نصرالله ـ مثل الكيان «الإسرائيليّ» أوهن من خيوط العنكبوت، فـ«الإخوة» أو «الأشقّاء» العرب فاقوا «الإخوة كارامازوف» حقداً وعداوة، وتبادلوا الطعن في الظهر أبرز شيمهم والتآمر ومزّقوا شعارات الأخوّة والتضامن و«وحدة المصير» وباعوا جميع القضايا القوميّة، وفي مقدّمها قضيّة فلسطين، وتسابقوا إلى العمالة لأميركا وأوروبا و«إسرائيل» وسلّموا خيراتهم الطبيعيّة للأميركيّ الذي بنى قواعده العسكريّة على أراضيهم وأمسك بخناقهم في السياسة و«السيادة» والاقتصاد، حتى لم يبق أثر لتلك «الوحدة العربيّة» التي ما انفكّت ترفع شعاراً فارغاً من أيّ قيمة أو مضمون.
أعود لفهم قصّة العروبة نشأةً وولادةً تاريخيّة، إلى كتاب الباحث والأكاديميّ الفلسطينيّ ألبرت حوراني الصادر في البدء بالإنكليزيّة عام 1962 تحت عنوان «Arabic thought in the Liberal Age» أعادت جامعة كامبردج إصداره عام 1983، ثم ترجمه إلى العربيّة كريم عزقول في طبعة لدى «دار نوفل» عام 2001 . ففي الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب وتحت عنوان «القوميّة العربيّة» نقرأ: «الاعتقاد أنّ الناطقين بالضادّ يشكّلون أمّة، وأنّ هذه الأمّة يجب أن تكون مستقلّة ومتحدة، لم يتّضح ويكتسب قوة سياسيّة إلا في القرن الحالي، لكننا نجد إذا ما توغّلنا بعيداً في الماضي، أنّ العرب كانوا دوماً يحسّون إحساساً فريداً ويعتزّون اعتزازاً خاصّاً بلغتهم، وأنّه كان لهم، قبل الإسلام، إحساس «عرقيّ»، أي نوع من الشعور بأنّ هناك، وراء منازعات القبائل والعائلات، وحدة تضمّ جميع الناطقين بالضادّ المتحدّرين من القبائل العربيّة. فكانت لكلّ قبيلة «شجرة عائليّة» مشتركة، معروفة ومقبولة لدى الجميع، ولا فرق بالنسبة إلى موضوعنا هنا أكانت حقيقية أم وهميّة، وبعد ظهور الإسلام وانتشاره في اللغة العربيّة خارج الجزيرة، أصبحت هذه «العائلة» تضمّ الكثيرين من المتحدّرين من أصول شتّى، دون أن تتنكّر للذين كانوا، كالغساسنة، من أصل عربيّ ولكنهم لم يعتنقوا الدين الجديد. وكان للعرب نصيب خاص من تاريخ الإسلام، لا بل من جوهر تكوينه. فالقرآن كان عربيّاً، والنبي كان عربيّاً، ودعوته الأولى كانت موجّهة إلى العرب، وكان العرب «مادة الإسلام»، أي الآلة التي بواسطتها انتشر الدين وسلطانه، كما أصبحت اللغة العربية، وبقيت، لغة العبادة والفقه والشرع … وعندما انتقلت السلطة آخر الأمر إلى الأتراك والجماعات المنتسبة إليهم وغدت اللغة التركيّة لغة الحكم، احتفظت اللغة العربية بمركزها الممتاز كلغة الثقافة الدينية والشرع، أو بتعبير آخر لغة الدولة التي كانت من الوجهة الدينية عماد الشريعة، فكانت بذلك الوسيلة التي بواسطتها استمرّ العرب يقومون بدورهم في شؤون المجتمع كافة … . ومن جهة أخرى، كانت المملكة الوهّابية في الجزيرة عربيّة، وذلك لا لكونها قامت عرضاً في منطقة عربيّة اللسان فحسب، بل لأنّها كانت أيضاً، بدعوتها المسلمين إلى العودة إلى نقاوة الإسلام الأولى، تحيي في أذهانهم ذكرى العهد العربي في تاريخ الأمّة الإسلاميّة. وكانت أيضاً إمبراطورية محمد علي قصيرة العمر عربية بفضل الجغرافيا، فالتوسع المصري كان لا بدّ له في البدء من أن يكون توسّعاً في البلدان العربية. لكن هل كانت عربية بمعنى آخر، وهل توخّى محمد علي إنشاء مملكة عربية؟ لم يكن هناك، لا في أقواله ولا في سياسته، ما يدلّ على ذلك، لكننا نجد بعض ما يشير إلى ذلك في أقوال ابنه ومساعده الأكبر ابراهيم باشا، فهو يقول: «أنا لست تركيّاً. لقد أتيت إلى مصر عندما كنت فتيّاً، ومنذ ذلك الوقت غيّرت شمس مصر دمي وجعلته عربيّاً خالصاً» … وفي ذلك الوقت عينه، كتب ابراهيم إلى والده كتاباً يكاد ينمّ عن المعنى نفسه، يقول فيه إنّ الحرب مع الأتراك كانت حرباً وطنيّة وعنصريّة، وإن على الإنسان أن يضحي بحياته في سبيل أمّته … ».
من هذا المستهلّ حول «القومية العربية» بقلم ألبرت حوراني، يظهر الضعف والوهن واللاثبات في البنيان «العربي» هذا، المستند إلى ركن غير متين هو اللغة، وإلى ركن آخر يوقعه في إشكاليّات ومعضلات لا حصر لها هو الدين، الذي يُدخل إلى قلب هذا «الكيان القوميّ» دخلاء، مثل الأتراك، بدعوى الانتماء الدينيّ، رغم الافتراق اللغويّ الذي يحرج الطرفين، التركي غير المتنازل شوفينيّاً عن لغته للنطق بلغة القرآن، والعربيّ الذي يفقد عماد اللغة لو قبل بالتركيّ شريكاً كاملاً تحت راية الدين، عدا التنافس الطاحن بين تركيا والسعودية الوهّابية ومصر على الزعامة أو «الخلافة» الدينيّة، ولدينا اليوم منافسون آخرون جدد من نوع «داعش» و«القاعدة» و«النصرة» وسائر المسوخ المشوّهة لحقيقة الإسلام والطامحة إلى تولّي «الخلافة»! إذن، ما شكّلت اللغة قطّ رابطاً قوميّاً كافياً وحقيقيّاً، وولّد الدين فرقة بدلاً من الاتحاد، إذ لا قوميّة حقّة يمكن أن تنشأ على أسس متينة وتستمرّ إلاّ بشروط الوحدة الفعليّة والاستقلال الوطنيّ التامّ وفصل الدين عن الدولة والإصلاح الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وتلك هي بعض المبادئ القوميّة الصحيحة التي نادى بها سعاده الذي شرح كذلك فهمه لمسألة العروبة وتقاطع الفكر السوريّ القوميّ معها… وللبحث صلة.