استراتيجية النصر… استراتيجية القضاء على الإرهاب
د. فيصل المقداد نائب وزير الخارجيّة السوريّة
لا نكتب حول التاريخ لاستجراره ولا للوقوف على أطلاله الدارسة، بل لنستفيد من عبره ودروسه واسترجاع السطور المشرّفة التي رسّخها الآباء والأجداد، كما أنّنا عندما نفتح صفحة جديدة بيضاء في سجل شعبنا وأمتنا فلأنَّ إرادتنا في أن يكون حاضرنا ومستقبلنا ناصعاً كما هو الثلج وحارّاً كما هي «الشمس التي لا تغيب». لا يمكن اختصار معاني سورية بثلاث سنوات صعبة ونسيان آلاف السنين من الحضارة والعطاء اللا محدود للبشريّة، وقبل كل ذلك لأمتها العربيّة وشعبها. وإذا كان قدر سورية أن تكون في مقدّمة جحافل الأمّة التي تتحمّل الصدمة الأولى، فإنّها كانت كذلك الجدار الذي تحطمت عليه غزوات المعتدين. ألا يكفي سورية قيادةً وشعباً شرف مواجهتها الآن لأعتى هجمة يتعرّض لها بلد في العالم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟ ألا يكفينا شرفاً صمودها وبسالة جيشها وقوّاتها المسلّحة الأخرى، وعدم تراجع قيادتها الملتزمة تطلعات شعبها والأحلام الجميلة لأطفالها؟
لم يترك أعداء سورية في الداخل وفي الإقليم وخارجه وسيلة إلّا واتبعوها لقتل هذا البلد الرمز. وطيلة سنوات تقترب من الأربع صمد هذا الوطن ولم تهن له قناة، ولم تتراجع له خطوة. فالهدف ما زال واضحاً لصمود هذا الوطن الأسطورة وهو عدم الانحناء والتنازل عن الحقوق وتسليم المقدرات لأعداء الإنسانيّة. وإذا كانت لغة الشرف والكرامة والإباء، قد غادرت منذ وقت طويل ألسنة وممارسات الكثير من الأنظمة المتهالكة في بلداننا العربيّة لمصلحة «إسرائيل» والولايات المتحدة والغرب، فإنّها ما زالت خبز وتطلعات سورية شعباً وحكومةً وقيادةً.
لا بد من القول إنَّ التطورات المتسارعة في المنطقة، وفشل أعداء سورية المدوي في تحقيق غاياتهم على رغم كثرة الأموال التي سخّروها لتدمير شعب سورية وحضارته وبناه التحتية، أعادت إلى الظهور مجدداً أجواء حرب نفسية توجهها بتفاصيلها «إسرائيل» بهدف إعادة الثقة لعملائها في السعوديّة وغيرهم في المنطقة وخارجها. وفي هذا السياق عادت النغمات النشاز للتشكيك في قدرة سورية على الاستمرار في مواجهة الهجمة، وكذلك التشكيك في علاقاتها مع حلفائها وأصدقائها، ناهيك عن قرارها المتخذ منذ بداية الأزمة للوصول إلى حلّ سياسي يبعد القتل والدمار من شعبها.
الجيش العربي السوري وقوّات الدفاع الوطني والدفاع الشعبي وشباب وشابات سورية يسطرون بطولات في كل مدينة وقرية سورية. والمجرمون والإرهابيون في جوبر وزملكا يواجهون مصيرهم المحتوم: «وبشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين». ومهما تضخّمت الأموال المرسلة إليهم، فإنّها لن تكون قادرة على حمايتهم وإنقاذ أرواحهم. وليس ذلك فحسب، فالأسلحة التي ترسلها تركيا والسعوديّة والدول الغربيّة إلى هؤلاء الإرهابيين لم تحمهم من نيران أبطال الجيش العربي السوري ووصولهم إلى كل جحر يختبئ فيه هؤلاء الإرهابيون. فهذه حمص تشهد على دقة ما نقول، ولم تبقَ إلّا مساحة لا تصل إلى 1,5 في المئة من كل مساحة المحافظة بيد المجرمين. لكن الأهم من ذلك أنَّ الجيش قادر على استعادة هذه البقعة في كل لحظة لولا تخوفه الأخلاقي من أن يكون المدنيون الأبرياء وقود هذا التقدّم، وكذلك الأوضاع في حماة وإدلب. أمّا في حلب فللجيش العربي السوري اليد العليا هناك وهو يتقدّم في كل دقيقة وساعة ويوم بشكل مدروس وهادئ على رغم الدعم الذي يتلقاه المجرمون من الولايات المتحدة وتركيا والتمويل السعودي السخي للإرهابيين. والجيش العربي السوري آتٍ لإنهاء وجود وحياة الإرهابيين الذين تدعمهم «إسرائيل» وأنظمة عربية وأوروبية في القنيطرة ودرعا وريف دمشق، وإذا توهموا أنَّ أيامهم ستكون مديدة فإنّهم يكذبون على أنفسهم فقط.
ومن جانب آخر، يشيع عملاء «إسرائيل» والغرب أنَّ العلاقات التي تربط سورية بأصدقائها في موسكو وطهران وبكين وكراكاس وبريتوريا، ودول أخرى كثيرة، تشبه علاقتهم مع أسيادهم الفرنسيين والبريطانيين والأميركيين و«الإسرائيليي»، حيث العلاقة مع هؤلاء علاقة السيد بعبده، علاقة التبعية والذل والخنوع والاستجداء. هؤلاء لا يعرفون مفردات السيادة والاستقلال والحريّة والكرامة، هذه المفردات التي تربط سورية بحلفائها وأشقائها. إنَّ ما يربط بين سورية والاتحاد الروسي من علاقات إنما يستند في جميع جوانبه إلى التاريخ المشترك والمصالح المشتركة. لم يقرأ هؤلاء ما ذكره التاريخ عن إمبراطورة روسيا كاترينا التي قالت إنّها لا تشعر بالأمان في بلادها إلّا إذا كانت سورية على علاقة ممتازة ببلادها؟ إنَّ روسيا الاتحادية التي بنت علاقاتها الخارجية بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين على قاعدة احترام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة واحترام استقلال وسيادة الدول هي المبادئ التي تربط بين سورية وروسيا العظيمة.
وانطلاقاً من المبادئ المُشار إليها أعلاه، بنتْ سورية لبنة فوق لبنة علاقاتها المشرّفة مع روسيا. وإذا كانت بعض أبواق التضليل التي تردّد صداها أجهزة الإعلام العربيّة الخاضعة للتوجيه الغربي قد ركّزت حملتها خلال سنوات وأشهر للنيل من هذه العلاقة، وبخاصّة خلال الأيام الأخيرة، فإنَّ ذلك لا يعدو كونه مجرّد أحلام ليلة صيف. فالعلاقات التي تربط البلدين تجاوزت سابقاً ولاحقاً أوهام من يريدون وضعها تحت الاختبار. إنَّ العلاقات الروسيّة السوريّة راسخة في ضمير الشعبين الصديقين، وليطمئن الحريصون على هذه العلاقات فهي في أبهى صورها وأرقى أشكالها على مختلف المستويات. نعم، على مختلف المستويات. وليفهم الغيورون والحاسدون والحمقى ذلك. وستثبت الزيارة المقبلة التي سيقوم بها الوفد السوري إلى روسيا الاتحادية رسوخ ذلك.
لقد أكّد الرئيس بشار الأسد منذ بداية هذه الحرب التي فرضتها دول غربيّة وإقليميّة على سورية خدمةً لأهداف «إسرائيل» التي تنتفع من الأزمة بكل تفاصيلها، أنَّ الحل النهائي لها لا بد من أن يكون سياسيّاً. وانطلاقاً من ذلك، قبلت سورية ببعثة الجامعة العربيّة بقيادة الفريق السوداني الدابي وبعده الجنرال مود وكوفي أنان والأخضر الإبراهيمي والتي أفشلها جميعها الغربيون والسعوديون والقطريون، إلّا أنَّ كل هذه المحاولات لم تنجح لأنَّ المخطّط كان يبغي تفتيت سورية من خلال فرض استسلام سورية شعباً وقيادةً للرغبات «الإسرائيليّة»، إلّا أنَّ سورية صمدت ورفضت أن تكون مجرّد حجر شطرنج تديره «إسرائيل» في الاتجاه الذي تريد كما تعوّدت أنظمة أخرى في المنطقة. وقد حلَّ أخيراً السيّد ستافان دي ميستورا مبعوثاً خاصّاً جديداً للأمين العام إلى سورية.
وفي الزيارتين اللتين قام بهما دي ميستورا إلى سورية لم يجد من القيادة السوريّة إلّا كل الترحيب بمهمّته والحرص الأكيد على إنجاحها وبخاصّة بعد أن اتفق الجانبان على أنَّ المهمّة الملحّة في هذه المرحلة لأي جهد دولي هي مكافحة الإرهاب من جهة، والاستمرار في تحقيق المصالحات المحليّة من جهة أخرى، والتوصّل في نهاية المطاف إلى عملية سياسيّة ذات صدقيّة لوقف هذه الحرب ووضع حدٍ لهذه الأزمة، لا سيما إنهاء ما تقوم به الأطراف الخارجيّة من تأجيج لنيران الحرب المعلنة على سورية من قِبَل الأطراف المعروفة.
وإذا ما أخذنا في الاعتبار أنَّ الهاجس الأساسي لدى الرئيس الأسد منذ بداية الأحداث وحتّى الآن كان الحفاظ على أرواح السوريين التي استباحتها المجموعات الإرهابيّة ومن يدعمها، فإنّه كان من الطبيعي التوصّل إلى فهم متبادل مع المبعوث الخاص لحقن الدماء والتشجيع على استمرار المصالحات الوطنية والدخول لاحقاً في عملية سياسيّة تضمن لسورية سيادتها واستقلالها ووحدة شعبها وأرضها بما يليق بتطلعات السوريين، ونؤكّد أنَّ سورية ستتعامل مع المبعوث الخاص بكل انفتاح ومن دون قيد أو شرط لتحقيق هذه الأهداف.
قد يبدأ البعض بوضع العصي في دولاب تحرّك المبعوث الخاص نحو الأمام، فالمهمّة صعبة كما يُدرك الجانبان، إلّا أنّها ليست مستحيلة. إنَّ طريق الألف ميل تبدأ بخطوة. وقد بدأت الخطوة الأولى وستبذل سورية كل ما تستطيع من جهد لإكمال المشوار بنجاح.