قراءة في الواقع والاحتمالات…
ابراهيم ياسين
الانتفاضة الشعبية العفوية التي اندلعت في لبنان في أعقاب قرار حكومي بفرض ضريبة على مكالمات «الواتس أب» إنما شكلت تعبيراً عن حجم الأزمة الاقتصادية المالية والاجتماعية التي يعاني منها لبنان واللبنانيون، وبلغت في الآونة الأخيرة مرحلة نوعية عُبّر عنها بارتفاع حجم الدين العام وفوائده المرهقة للاقتصاد والعجز المتزايد في الموازنة العامة والتردّي الحاصل في الخدمات العامة في الدولة، لا سيّما الكهرباء والمياه والنفايات وتراجع التقديمات الاجتماعية، وتزايد نسب البطالة لا سيما في وسط الخرّيجين على خلفية الركود الاقتصادي وضعف القطاعات الإنتاجية، نتيجة للسياسات الريعية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة منذ عام 1992 وبالأخصّ الحكومات الحريرية.
في مواجهة هذه الأزمة التي انفجرت في الساحات، اضطرت الحكومة إلى إقرار ورقة اقتصادية خالية من الضرائب على الفئات الشعبية، وحمّلت المصارف جزءاً من أعباء حلّ مشكلة العجز في الموازنة عن عام 2020، وفرضت ضريبة على أرباح المصارف، وأقرّت قانون ضمان الشيخوخة وبيع شركتي الخليوي، إضافة إلى بعض الإجراءات التقشفية التي طالت صناديق مجلس الإنماء والإعمار، ومجلس الجنوب، ومجلس المهجرين، إضافة إلى رواتب الوزراء والنواب الحاليين والسابقين وتحديد سقف الرواتب للمدراء العامين وضباط الجيش .
غير أنّ الرئيس الحريري عمد إلى المماطلة والتسويف في تنفيذ هذه الورقة، حيث أنه لم يدعُ الحكومة إلى الاجتماع لوضع جدولة تنفيذية لها.
إنّ الحريري وفريقه الاقتصادي المسؤول عن السياسات الاقتصادية والمالية الريعية، اضطّر مُكرهاً لتقديم هذه التنازلات التي كان يرفضها سابقاً، نتيجة ضغط الشارع والخوف والقلق على مصالحه ومصالح المصارف في حال ذهبت الأمور إلى الفوضى والفراغ والإنهيار المالي.
لكن الحريري التف على تنفيذ الورقة الإصلاحية، وعمد إلى محاولة تمرير تشكيل حكومة تكنوقراط قبل استقالة الحكومة تكون برئاسته، أو إجراء تعديل وزاري بهدف إضعاف حضور التيار الوطني الحر وحزب الله، وبالتالي إحداث تغيير في موازين القوى على مستوى السلطة التنفيذية بما يشكل انقلاباً على نتائج الإنتخابات النيابية الأخيرة التي خسرت فيها قوى 14 آذار الغالبية في البرلمان وكان واضحاً أنّ هذه المحاولة للانقلاب على المعادلة السياسية وموازين القوى تتمّ بضغط أميركي من أجل تعويض فشلها أميركا في سورية تحديداً واليمن وفي المواجهة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذه المحاولة الإنقلابية في لبنان يحصل مثلها في العراق.
هذه المحاولة من قبل الحريري، والتي كانت رضوخاً للمطالب الأميركية فشلت بسبب رفض كلّ من حزب الله والتيار الوطني الحر والقوى الوطنية والتقدمية لأيّ تعديل وزاري أو تشكيل حكومة تكنوقراط، والذهاب بدلاً من ذلك إلى انكباب الحكومة على تنفيذ الورقة الإصلاحية التي أقرّتها.
عند هذه النقطة فاجأ الحريري الجميع بتقديم استقالته بعد أن كان يؤكد تصميمه على عدم الاستقالة، وتبيّن أنّ من يقف وراء دفعه إلى الاستقالة حسب كلّ المصادر هو الجانب الأميركي الذي يريد دفع الأمور إلى رمي الكرة في ملعب حزب الله والعهد بتحميلها مسؤولية الأزمة من ناحية، وتهرّب قوى 14 آذار بقيادة الحريري من المسؤولية عن الأزمة الحاصلة والناتجة أصلاً عن سياستهم الاقتصادية والمالية والاجتماعية.
في ظلّ هذه التطورات كان واضحاً أيضاً أنّ الحراك الشعبي العفوي قد ركبت موجته العديد من الأطراف والقوى السياسية بعضها من قوى وأحزاب وطنية وتقدّمية تاريخها حافل بالنضال الوطني وفي الدفاع عن مصالح الفقراء والفئات الشعبية وقد كانت في صلب الحراك من بدايته تعمل لتحقيق مطالبه وفي نفس الوقت على عدم انحرافه عن مساره المطلبي والوطني، بعد أن دخلت عليه قوى يمينية وطائفية تدين بالولاء للسياسة الأميركية وتتلقى التعليمات من السفارتين الأميركية والسعودية في بيروت، وعمدت إلى طرح الشعارات السياسية القصووية الداعية إلى إسقاط كلّ مؤسسات الدولة السلطة التنفيذية، رئاسة الجمهورية، مجلس النواب ولأجل ذلك عمدت إلى قطع الطرقات وتعطيل حركة الإقتصاد وتنقل المواطنين ومنعهم من الذهاب إلى أعمالهم ونصب الحواجز التي راحت تدقق بهويات المواطنين بما يذكّر بسلطات الأمر الواقع. التي نشأت خلال الحرب الأهلية، ولقد تبيّن من خلال مراقبة سير التظاهرات وتحديد مواعيد إذاعة النشيد الوطني اللبناني في كلّ الساحات في وقت واحد، أو إعلان الإضراب وإقفال الطرقات، أنّ هناك جهات غير معلنة تقف وراء كلّ ذلك لحرف الحراك الشعبي العفوي عن مساره الحقيقي وتوظيفه في خدمة أجندات سياسية تستهدف عهد الرئيس ميشال عون والمقاومة، من قبل قوى 14 آذار ومن خلفهم الولايات الأميركية المتحدة. وكان لافتاً أنّ بعض وسائل الإعلام التي حصلت على تمويل مفاجئ من بعض الدول الخليجية الدائرة في الفلك الأميركي تلعب دوراً أساسياً في توجيه الحراك وترجمة الأهداف التي تريدها القوى المذكورة آنفاً من خلال: أولاً النقل المباشر على مدى الساعة للتظاهرات والإعتصامات في كلّ المناطق مهما كان حجمها. وإبراز المتحدّثين الذين يطرحون الشعارات السياسية السلبية التي ترفض كلّ الحلول، ويكيلون الشتائم ضدّ رموز سياسية معينة وأساسية مثل الرئيس ميشال عون وسماحة السيد حسن نصر الله بقصد استفزاز أنصارهم والشارع المؤيد لهم، ودفع البلاد إلى الصدام وبالتالي إلى الفوضى لفرض أجنداتهم التي تخدم السياسة الأميركية.
هكذا تحوّل الحراك العفوي رويداً رويداً من حراك مطلبي إلى حراك تهيمن عليه الشعارات السياسية التي تتعارض مع المطالب المحقة التي نزل الناس من أجلها إلى الساحات في بدايات انتفاضتهم العفوية، وهذا ما انتبهت إليه قيادة المقاومة والتيار الوطني الحر وبعض القوى الوطنية المشاركة في الحراك فقطعت الطريق على هذا المخطط الذي استهدف دفع البلاد إلى الفوضى وخطر الانزلاق إلى الانهيار الاقتصادي والمالي.
بعد استقالة الحكومة أصبحت البلاد في مرحلة تصريف أعمال وأمام احتمالات مفتوحة إما تشكيل حكومة توافقية تستند إلى برنامج متفق عليه مسبقاً يلبّي المطالب المحقة للبنانيين ويتمّ على أساسه تسمية رئيس الحكومة.
أو الفشل في هذا الاتفاق والذهاب إلى تشكيل حكومة من الأكثرية النيابية تقوم هي بتنفيذ برنامج اقتصادي اجتماعي يُحدث قطيعة مع السياسات الحريرية الريعية، ويتجه شرقاً لحلّ أزمات لبنان الاقتصادية والخدماتية.
أو يتمّ تسمية رئيس حكومة من دون الاتفاق المسبق على تشكيلة الحكومة وطبيعتها وبرنامجها وبالتالي يحصل خلاف ولا يتمكّن الرئيس المكلف من تشكيل الحكومة، وتبقى البلاد في ظلّ مرحلة تصريف أعمال غير محدّدة زمنياً، مما يثير القلق من تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية، واستطراداً حصول انهيار مالي ينتج عنه انزلاق البلاد إلى الفوضى التي حذّرت منها الأحزاب والقوى الوطنية كما حذّر منها قائد المقاومة السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير.