أسطورة الأسد
ناصر قنديل
– ما قاله الرئيس بشار الأسد للتلفزيون البرتغالي شديد التواضع في وصف الأسطورة التي كتبها مع الشعب والجيش في سورية، والتي خرقت كلّ قوانين الحرب والسياسة، وصاغت معادلات جديدة في كيفية صناعتهما.
– الأكيد أنّ الوضوح كان تاماً على ضفة الجبهة التي تخطط لإسقاط الرئيس السوري منذ اليوم الأول لبدء ما سُمّي بالربيع العربي، أي منذ جاء إلى دمشق كل من صحافيّي «وول ستريت جورنال» يسألون الرئيس الأسد عن إمكانية أن يحدث في سورية ما كان يحدث في مصر، وما كان قد حدث في تونس، ويوشك أن يحدث في ليبيا، ومنذ جاء في التوقيت نفسه، أيّ شهر كانون الثاني من عام 2011 وزيرا خارجية تركيا وقطر للتوسط من أجل الضغط على حزب الله للتراجع عن انسحاب الثلث المعطل من حكومة الرئيس سعد الحريري ما أدّى إلى إسقاطها.
– كانت الأدوار على ضفة عشر دول على الأقلّ موزعة بدقة، والإعلام والفتاوى، والمنصات، والتمويل، والاغتيالات، واستجلاب مقاتلي «القاعدة» من كلّ أنحاء العالم، كانت «الجزيرة» بدأت حملتها: «سورية… الشعب يصنع ثورته»، من اليوم الأول لحادثة درعا منتصف آذار 2011، وسعد الحريري يخلع جاكيتته في منبر مناسبة الرابع عشر من آذار إيذاناً بتحويل لبنان ساحة خلفية للحرب لإسقاط سورية، وبيده وعلى لسانه وعد العودة من مطار دمشق، وأمير قطر يبشر الرئيس السوداني بوعد الذهاب إلى دمشق في عيد الفطر من ذلك العام، ورئيس وزراء تركيا يتعهّد بالصلاة في المسجد الأموي، والرئيس الأميركي قبل حديثه عن الخطوط الحمر يعلن أنّ أيام الأسد باتت معدودة.
– في المقابل على ضفة سورية والحلفاء، كان كلّ شيء مشوّشاً ومرتبكاً، أجهزة الدولة الأمنية لا تتوقع أحداثاً كبيرة وتضع أمام الرئيس الأسد غالباً تقارير تقول إنّ كلّ شيء تحت السيطرة، والقيادة الحزبية ليست جاهزة ولا مهيأة لمواجهة بهذا الحجم، وبقيت لأشهر غائبة عن الحضور على الإعلام وبين الناس لشرح ما يجري، وقد حلت القيادات الحزبية، والإعلام في سورية لا ينقل خبراً عما يجري، بينما مئات وسائل الإعلام قد جنّدت لحملة «شاهد العيان» التي صنعتها «الجزيرة» لترويج الإشاعات، عن سقوط مدن في يد المعارضة، وعن عشرات ومئات الألوف يحاصرون مباني حكومية في مدن أخرى، والجيش السوري في خريطة انتشار وخطط قتال قد بُنيت على فرضية، «الداخل آمن» والاستعداد لحرب خارجية نظامية، وجهتها «إسرائيل» دائماً، والحكومة تتلهّى بخطط خمسية لا تنفذ، وخصخصة تستعدّ عبرها لبيع جزء حيوي من القطاع العام وتشريد موظفيه، ومناقشة رفع الدعم عن المواد الاستهلاكية، والنخب الثقافية عموماً، بمن فيها المخلص للوطن، مرتبك ومشوّش، ولسان حاله هذا هو الوقت المناسب لترك المستفيدين من النظام يظهرون قحطهم وعجزهم، ولماذا علينا أن ندفع الفاتورة عنهم، فالتمييز مفيد الآن بمطالعة نقدية من جهة، ورفض للخارج المتدخل من جهة أخرى لتكون الحصيلة مزيداً من التشوّش والارتباك، والشعب السوري بغالبية شرائحه، لا يثق بغير رئيسه، يميّزه عن السلوكيات الفاسدة لرموز الحكم والمظالم التي يتسبّبون بها، يرى فيه عزة وكرامة سورية، والترفع عن كلّ شيء، والتنسّك لقضية، والصدق والذكاء الحادّ، والجاهزية للمراحل الصعبة، لكن كلّ ما حول الشعب يزيد ذهنه تشوّشاً، ما يجري عربياً من حراك يبدو صادقاً، وما يجري في تحول وانقلاب الأصدقاء القطريين والأتراك، وصمت الأصدقاء الروس، وحديث الأصدقاء في إيران والصين وسواهم عن الحلّ السياسي، بينما الاتهام بالحلّ العسكري موجه إلى الدولة وأجهزتها، وحده الرئيس الأسد يجزم أنّ مبادرات كثيرة للحوار تقدّم وترفض، وأنّ الاستعداد لتلبية أيّ مطلب سلمي قائم حتى تخطي تعديل مادة من الدستور لإعادة صياغته من الأساس، ووحده السيد حسن نصرالله يصادق على الكلام، وهو يؤكد على الدعوة إلى حلّ سلمي قائم على الحوار، ويتمهّل في استخدام مصطلح المؤامرة الذي يصرّ عليه الرئيس الأسد وحيداً، مع قلة قليلة من الأصدقاء، ووحده الرئيس الأسد يرفض الزجّ بالجيش في مواجهة الأحداث في البدايات، وكلّ همّه وهاجسه أن يبني الشعب روايته الكاملة عما يجري، وقراره الصمود حتى تلك اللحظة، ويقول للمقرّبين، عندما تتطابق رواية الشعب بوعيه مع روايتنا، نبدأ المواجهة الميدانية.
– بعد أربع سنوات، تغيّر كلّ شيء، فروسيا تخطت مجرّد استخدام الفيتو مرات، إلى وضع ترسانتها العسكرية في تصرف الجيش السوري، وإيران ترسل قادة الحرس الثوري، وصناديق المال والسلاح اللازمين لصمود سورية، وحزب الله قدّم خيرة شبابه، ووضع ثقله ورصيد قائده، كي لا تسقط هذه القلعة، سورية، والحزب صار منظومة مقاتلة، وأجهزة الأمن صارت شبكات محترفة في الرصد والمتابعة والقتال والتفاوض، والجيش صار بحق الجيش الوحيد الذي استحق بجدارة لقب الجيش الذي لا يُقهر، وقد تكلّل بآلاف أوسمة الشهداء من القادة والضباط والجنود، والشعب يتحدّث اليوم عن المؤامرة وقد صارت يومياتها محفوظة عنده عن ظهر قلب، والإعلام السوري الرسمي تحرّر من القوالب الجامدة، ولو بقليل من الفوضى أحياناً، لكنه يتلمّس الخطى، وفي كلّ هذا المشهد تبقى حبة البركة من اليوم الأول في شبكة المواجهة الشريكة للأسد، سيّد المقاومة، لكن السؤال، من هو هذا الرجل السوبرمان، بشار الأسد، الذي تمكن بقوة إيمانه ووضوح رؤيته فقط، وفعلاً فقط، أن يصمد نفسياً وعصبياً، وهو يرى ويسمع أنّ كلّ شيء ينهار أو سينهار أو قد انهار، وهو واثق أنّ كلّ شيء سيتغيّر، أو تغيّر، أو بدأ يتغيّر.
– صنع الرئيس الأسد نصره بقوة إيمانه ووضوح رؤيته وشجاعته وبطولته، وثقته بأنّ الشعب لن ينحاز ضدّ تاريخه ومستقبله إذا وجد قائداً يواجه الصعاب ولا يهاب، لكن الأسد صنع النصر لشعبه وحزبه وجيشه أيضاً، ولحلفائه أيضاً وأيضاً، فتغيّر وجه العالم ووجه المنطقة، وتوالدت معادلات جديدة في العالم والمنطقة، ونسبة الحصة من النصر بنسبة الحصة من المساهمة في صناعة الصمود.
– تساءل الرئيس الأسد أمام التلفزيون البرتغالي: «كيف يمكن لثورة أن تنهار أو تفشل إذا كانت تحظى بدعم الغرب وبدعم دول إقليمية في موازاة هذه الأموال والسلاح، فيما هناك ديكتاتور يقتل شعبه، وشعبه ضدّه والدول الإقليمية ضدّه والغرب ضدّه، وقد نجح». وأشار إلى «أنّ «هناك احتمالين: إما أنكم تكذبون علينا، وإما أنكم تتحدثون عن سوبرمان. هو ليس بسوبرمان، هو رئيس عادي، وقد استطاع أن يستمرّ لأربع سنوات، فقط لأنه يتمتع بدعم الشعب، ولا يعني ذلك دعم كلّ الشعب بل شريحة واسعة من السوريين».
– في تفسير الرئيس الأسد كثير من التواضع، فشعبه الذي وقف معه، فعل ذلك بالتدريج، لأنه أراد أن يفهم سرّ صموده، وهو في الأصل يراه لغزاً يمثل الصدق والتفاني والشجاعة والشهامة ومخزون القيم السامية، فقرّر التريّث لرؤية رواية مَن هي الأصدق، ما يسمعه كلّ يوم، من كلّ الآخرين، أم ما قاله له رئيسه في اليوم الأول وأعاد شرحه وتوضيحه في اليوم المئة، وفي كلّ يوم كان يزداد منسوب ثقة الناس برئيسهم وبروايته، وكانت كرة الثلج تكبر، حتى تشكلت تلك الكتلة التاريخية العابرة للمناطق والطوائف والقوميات، وحسمت الأرجحية لخياره.
– الرئيس الأسد أسطورة قيادة تاريخية صنعت بقوة الإيمان ووضوح الرؤية والثقة بالشعب وسلامة انحيازاته، معجزة يستحيل تفسير حدوثها إلا مع قائد خارق، سوبرمان.