الضوء في نهاية النفق

د. فيصل المقداد

نائب وزير الخارجية السورية

انتهت في موسكو قبل يومين 9/4/2015، الجولة الثانية من المشاورات التمهيدية بين الحكومة السورية والمعارضات السورية وسط أجواء تدعو إلى الأمل والتفاؤل. وقد تابع السوريون جلسات الحوار باهتمام لسببين: الأول، هو كيف يطرح المتحاورون فهمهم لما يجري على الأرض، والثاني، هو استشراف إمكانية التوصل إلى الحلّ الذي يتطلع السوريون للتوصل إليه.

إنّ السوري الذي واجه طيلة السنوات الأربع الماضية حرباً لا سابق لها في تاريخه الذي يعود إلى عشرة آلاف عام، يحلل التطورات، ويدرس المعطيات ويخرج باستنتاجات تكون في أغلب الحالات أقرب إلى الدقة والموضوعية، هو السوري الذي يعي حجم الكارثة التي تمّ فرضها فرضاً من قبل أعدائه للنيل من بلده. وفي نفس الوقت يعرف السوري، كلّ سوري، أنّ التدخل الخارجي المباشر في شؤون بلده استخدم أدوات داخلية أيضاً للوصول إلى أهدافه في محاولته لتدمير سورية والمنطقة حفاظاً على مصالح «إسرائيل» أولاً وعلى مصالحه ومصالح أدواته ثانياً. ولذلك فإنّ الأصدقاء الروس الذين وعوا بحكم تجاربهم المريرة مع الدول الغربية وتحليلهم الدقيق للوضع الجيوبولوتيكي في المنطقة والعالم طبيعة المخططات والمؤامرات التي نسجها عنكبوت الغرب لإخضاع سورية والمنطقة لإرادته، عرفوا منذ البداية، بداية الأزمة السورية، أنّ الحلّ لا يمكن أن يكون إلا في إطار مبادئ القانون الدولي الذي ينبذ التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة وفي إطار مبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة والشرعية الدولية التي تحرّم دعم الإرهاب. كما أكدت السياسة الروسية أهمية وحدة السوريين في مواجهة أعدائهم. وانطلاقاً من كلّ ذلك منعت استخدام الأمم المتحدة كمنصة لتبرير أيّ عدوان غربي على سورية. وعندما فشل الآخرون في احترام تعهّداتهم الدولية وقاموا بإشعال الحرب في سورية ومراقبة توسّع نيرانها بفضل السلاح والمال والتدريب والإيواء الذي قدّمته أدواتهم في المنطقة لإغراق سورية في الدماء، سارع الأصدقاء الروس إلى ممارسة دورهم المسؤول والإنساني في إطفاء نيران الأزمة أولاً، ومن ثم اللجوء إلى إقناع الدول المتورّطة في سفك الدم السوري بأهمية التوصل إلى حلّ يحقن الدماء ويضمن لسورية وحدتها وسيادتها. وانطلاقاً من ذلك جاءت المبادرة الروسية بعد فشل جولتي جنيف بسبب إصرار الغرب وأدواته على ركوب الحصان الهزيل والخاسر، وهو ما يُسمّى «الائتلاف» وفرضه كممثل وحيد للمعارضة السورية، وبذلك أعاد الأصدقاء الروس الأمل في تجاوز مرحلة الفشل من جهة وإذكاء روح التفاؤل من جهةٍ أخرى من خلال مبادرتهم للدعوة إلى عقد مشاورات في موسكو بعد مرور عام تام على جولتي جنيف لم نسمع خلاله بمبادرات جدية من قبل الدول الغربية ومن يسير في ركبهم لإعادة بذل أيّ جهد جدي لحلّ المشكلة، وذلك لأنهم كانوا غارقين في حربهم على سورية واستنزافها وسفك دماء شعبها بعيداً عن العمل السياسي الذي كانوا يدّعون أنه الحلّ الوحيد للأزمة السورية، لكن الواضح أنّ ذلك لم يكن إلا مجرّد كلام رخيص.

الجديد في لقاء موسكو التشاوري الثاني هو أنّ النقاش كان أكثر تنظيماً ومنهجية. صحيح أنّ الدعوات التي وجهها الأصدقاء الروس إلى المشاركين قد واجهت إشكالات من بعض الأطراف، إلا أنّ ذلك لم يؤثر على جدّية النقاش وتوسّعه لكي يشمل الكثير مما كان يدور في أذهان الحضور.

ومن الجوانب التي لا بدّ من الإشارة إليها في إطار ما تمّ في لقاء موسكو الثاني وما سيليه ما يلي:

1- إنّ جدول الأعمال الذي قدّمه الميسر لهذا الاجتماع كان عاملاً أساسياً في إنجاح المناقشات، حيث كان جدول الأعمال منطقياً في شموليته لكافة المسائل التي تجب مناقشتها، كما جاء مقبولاً في تسلسل المواضيع المطروحة للنقاش. فجدول الأعمال بدأ ببند تقييم الوضع الراهن في سورية، وانتقل بعد ذلك إلى الموضوع الذي يشغل كلّ السوريين ومحبّي سورية وهو توحيد القوى الوطنية لمواجهة التحديات القائمة بما فيها العمل المشترك ضدّ الإرهاب، وبعد ذلك تأتي النقطة الثالثة حول بناء الثقة بين الحكومة والمعارضة، ورابعاً، أسس العملية السياسية بما فيها بيان جنيف. وأخيراً الخطوات التي من الضروري القيام بها للتقدم نحو المصالحة الوطنية وتسوية الأزمة.

وقد أنتج جدول الأعمال هذا والمنهجية التي اتبعها ميسر الاجتماع إجماعاً من كلّ المشاركين على نقاط لم يتمّ الاتفاق عليها بين الحكومة والمعارضات المشاركة منذ بدء الأزمة السورية. وكان يمكن تحقيق إنجاز آخر يتعلق بالبند الثاني المتعلق بمكافحة الإرهاب لو أن بعض المشاركين من المعارضة نجح في التغلب على ذاته وعدم تكرار الخطأ الذي حصل في جنيف عندما أصر وفد ما يسمى بالائتلاف على القفز على جدول الأعمال للوصول إلى استنتاجات خاطئة ما زالت مسؤولة حتى الآن عن فشل جنيف2. وهنا أعود للتأكيد على ضرورة السير بجدول الأعمال كما هو وإخضاع كل المناقشات والتحليلات التي ستتم وفقاً للتسلسل المنطقي الذي وردت فيه. وعلى الجميع أن يعرف أن الوفد الحكومي لديه التكليف والتفويض اللازم لمناقشة كافة العناصر الواردة على جدول الأعمال. ولا نجد أي مبرر للخروج باستنتاجات عاجلة ووهمية غير مبنية إلا على عامل عدم الثقة. ومن جهة ثانية فإن عامل بناء الثقة الأساسي الذي يطالب بترسيخه كل الشعب السوري هو توحيد جهود الحكومة والمعارضات الوطنية لمواجهة آفة ومخاطر الإرهاب وعدم تحويل هذه المهمة النبيلة إلى مجال للتشكيك والمراهنة وتخريب الأجواء الإيجابية التي عكسها التوصل إلى نقاط هامة جداً لا يجوز لأي كان التلاعب بها أو إضعاف مضمونها وتأثيرها.

2- لقد شهدت سورية منذ عام 2012 تطورات جديدة ليست بالقليلة سواء من حيث بروزها على ساحة الأحداث أو تأثيرها على الوضع العام في القطر، ومن الحتمي تناول هذه التطورات للتوصل إلى حل للأزمة. إن الأخطار التي كانت القيادة السورية قد أوضحتها منذ بداية الأحداث، خصوصاً خطر الإرهاب قد ظهر في شكل لا يدع مجالاً للتفسير وسوء التفكير. وما بروز دور «داعش» و«جبهة النصرة» والدور الإرهابي لما يسمى الجيش الحر وتنظيمات القاعدة الأخرى واعتماد مجلس الأمن لقرارات أساسية في إطار الجهد الدولي للحرب على الإرهاب ومكافحته هي جوانب استجدت بعد جنيف الأول وتفرض على الجميع، خصوصاً في إطار المعارضات الوطنية السورية التي ترفض الإرهاب العمل يداً بيد مع الحكومة السورية والجيش العربي السوري والقوات المسلحة للقضاء على هذا الخطر الداهم الذي لا يهدد سورية فحسب بل يهدد المنطقة والأمن والسلم الدوليين. إن الكثير من الآراء والأفكار التي طرحها الممثل الخاص الأسبق للأمين العام للأمم المتحدة في سورية كوفي أنان وحتى الأخضر الإبراهيمي تجاوزتها الأحداث ويجب أن تخضع لمناقشات تتعلق بمدى صلاحيتها لمعالجة الوضع العام في سورية. كما أن المهمة التي يقوم بها ستيفان دي ميستورا تطور جديد يجب تناوله بما يستحق من الأهمية والاعتبار.

3- إن انفضاح الأطراف التي تورطت في دعم الإرهاب على سورية في مخالفة منها لميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن رقم 2170، 2178، 2099 التي تلزم الدول في شكل لا لبس فيه بمحاربة الإرهاب تلقي على أطراف المعارضة المشاركة في الحوار، خصوصاً التي ربطتها علاقات مباشرة أو غير مباشرة بداعمي الإرهاب في السعودية ودول الخليج الأخرى والأردن أو بتركيا وفرنسا وبريطانيا أو بعض الأطراف اللبنانية، التي لن نتردد بالإشارة إليها بالاسم قريباً في حال عدم وقف تورطها في دعم الإرهاب، فإن كل ذلك يحتم علينا إجراء مراجعة للمياه التي جرت تحت الجسر لوضع النقاط على الحروف وضرورة حشد كل طاقات السوريين حكومة ومعارضة لمواجهتها بعيداً عن الانتهازية وازدواجية المعايير التي ما زالت تلف بعمل بعض المعارضات التي لم تحسم موقفها بعد.

4- يبقى الأهم في كل التطورات هو أن النهوض الجماهيري السوري والوعي الذي يمارسه الشعب السوري خصوصاً التفاف الغالبية المطلقة من أبناء هذا الشعب حول قيادته وجيشه يبقى التطور الأبرز. فطالما كان الهدف الأساسي للجهود المبذولة هو احترام إرادة الشعب السوري، فإن الشعب السوري قد عبّر عن هذه الإرادة في الانتخابات الرئاسية في حزيران وتموز من العام الماضي وكذلك في الخطط والإجراءات التي اتخذتها حكومة الجمهورية العربية السورية لمواجهة التحديات.

إن من يأخذ كل هذه العوامل في الاعتبار لدى معالجة الأزمة السورية لن يضل الطريق الصحيح لإيجاد الحل الذي ينشده الشعب السوري وأصدقاؤه، ولكل من يتطلع إلى عودة الأمن والاستقرار إلى ربوع سورية الجميلة بعيداً عن مخططات «إسرائيل» وحلفائها في العالم وأدواتها في المنطقة وفي داخل سورية. وإنه على رغم الأجواء التي حاولت أجهزة الإعلام السعودية وغيرها القيام بها لنشر التشكيك بالإنجازات التي تحققت في لقاء موسكو الثاني، وبصراحة من خلال مساندة بعض الأفراد ممن شارك في اللقاء لهذه التوجهات الإعلامية من خلال تراجعهم عما كانوا قد أجمعوا في التوصل إليه، إلا أن الحقيقة تبقى أن الأصدقاء الروس كانوا شاهداً موثوقاً ونزيهاً على ما تم إنجازه، وأن السوريين وحدهم هم، بمساعدة أصدقائهم المخلصين، القادرون على إعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع وطنهم من خلال حوار سوري سوري وبقيادة سورية ومن دون أي تدخل خارجي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى