الشاعر الفراتي… أيقونة مدينة دير الزور على رغم الإرهاب والظلاميّة
سبع وثلاثون سننة مرّت على ذكرى رحيل الشاعر محمد الفراتي، الذي ارتبط بنهر الفرات اسماً وشعراً حتى لخّصه في إحدى قصائده قائلاً:
ذاك نهر الفرات أحب القصيدا
من جلال الخلود معنى فريدا
جرعة منه في قرارة كأس
تجعل المرء في الحياة سعيدا
لقد كان الفراتي حزمة من الرجال في رجل واحد، فهو شاعر كبير ومترجم وفيلسوف وفلكي ورسام ورجل نضال وطني، عاش حياته مدافعاً عن بلده. وبعد مماته، ظل شوكة في حلوق أعدائه، لذلك استهدف الإرهاب تمثاله الجاثم على باب مديرية الثقافة دير الزور.
ولد محمد بن عطا الله العبود الملقب بـ«الفراتي» عام 1878 في مدينة دير الزور، وكبر مع المدينة. وكلّما طالت قامته قليلاً امتدت المدينة أكثر، وهذا أهم أسباب الرمزية التي اتخذتها شخصيته لدى أبناء دير الزور. فكان الشاعر الأول في تاريخ مدينتهم الذي لا يتجاوز مئتي سنة.
وبدأ الفراتي تعليمه في دير الزور وانتسب إلى مدرسة الرشيدية، ثم تابع دراسته في حلب. سافر بعدئذٍ إلى مصر والتحق بالأزهر عام 1911، وانتظم في الرواق الشامي، ولُقّب حينذاك بالشيخ الفراتي لأنه كان ينظم القصائد الشعرية ويذيّلها باسمه، فما كان من زملائه إلا أن أطلقوا عليه اللقب. كما عرفت القاهرة أولى وقفاته الرسمية على منابر الشعر عندما شارك بأمسية في دار الأوبرا المصرية مع عدد من الشعراء المصريين البارزين في تلك الفترة، كان من بينهم الشاعر حافظ إبراهيم.
وعندما اندلعت الثورة العربية الكبرى ضد المحتل التركي سارع شاعرنا للانضمام إليها. كما كانت له مساهمات في ثورة 1919 في مصر ضد المحتل الانكليزي، عاد بعدها إلى مسقط راسه في دير الزور، ليعمل في التدريس وبدأ يحضّ على الثورة علناً ضد الاحتلال الفرنسي، فما كان من الأخير إلا فصله من التعليم. وعندما علم ان الفرنسيين يخططون لاعتقاله، سافر الفراتي خفية إلى العراق. وفيه تبنّاه المفكر العربي ساطع الحصري فعيّنه مدرّساً للغة العربية. ثم سافر إلى البحرين وعمل معلماً في المدرسة الرسمية الأولى في المنامة. وبعد سنوات ثلاث قضاها في البحرين، عاد إلى دير الزور ليعيّن مدرساً مرة أخرى في ثانوية الفرات.
ولم تنته رحلات الفراتي عند هذه الحدود، إنما سافر إلى السعودية وإيران ومصر وشارك في المهرجانات الشعرية العربية. ومثّل سورية في المهرجان التأبيني الذي أقيم في القاهرة تخليداً لشاعر القطرين خليل مطران الذي توفي سنة 1949.
ودلالة على تجواله الدائم، تعمد الفراتي أن يعطي قصائده عناوين الأماكن التي كُتبت فيها. فالقصائد التي كتبها في مصر سمّيت المصريات. والقصائد التي كتبها في الحجاز أيام الثورة العربية الكبرى سمّاها الحجازيات. وما كتبه في البحرين أسماه البحرانيات. إضافة إلى ما كتبه في دمشق ودير الزور أسماه السوريات.
وفي السنوات الأخيرة من حياة شاعرنا، حظي بنصيب وافر من التكريم الذي يستحق. فكرّمه اتحاد الكتّاب العرب سنة 1976 في احتفال مشهود حضره الراحلون الشاعر سليمان العيسى والأديبان خليل هنداوي وابراهيم الكيلاني والقاصّ عبد السلام العجيلي. وفي السنة نفسها كرّمه الرئيس الراحل حافظ الأسد بتخصيص راتب تقاعديّ له.
وفي 17 حزيران عام 1978، توفي الفراتي عن عمر ناهز مئة سنة، تاركا لنا آلاف القصائد الخالدة. وله عدد من الدراسات الفلكية التي كتبها بعد سهر ليال وراء تلسكوبه الخاص الذي صمّمه بنفسه، ولوحات فنية متعدّدة زيّن بها منزله. إذ رسم على جميع جدرانه وقبابه. وفوق ذلك ترجماته لروائع الادب الفارسي الذي كرّمته لأجله جهات إيرانية أكثر من مرة، آخرها كانت الندوة التي أقيمت في المستشارية الثقافية الايرانية في دمشق عام 2006.
ومن آثار الفراتي في الشعر، دواوين: الفراتي، والنفحات، والساحر، والعواصف، والهواجس. ومخطوطان شعريان هما: صدى الفرات، وسبحات الخيال. كما صدرت عن حياته عدّة مؤلفات منها: الفراتي حياته وشعره للباحث الدكتور شاهر أمرير. وكتاب الفراتي مأخوذاً بالوردة والسيف من إصدارات سلسلة كتاب الجيب عن اتحاد الكتّاب العرب.
الأديب الدكتور نزار بني المرجة الذي خصّ الراحل الفراتي بعدة محاضرات ودراسات عن أعماله وحياته، استقاها من معرفته الشخصية به، قال في حديث لـ«سانا»: كان شرف لي أن التقي الراحل منتصف سبعينات القرن الماضي. وكانت لي معه عدة جلسات حوارية جميلة في منزله في حيّ ركن الدين. وأيضاً في مقهى الحجاز خلال إقامته في دمشق، حيث كان يجلس في ركن خاص به تحت شجرة وارفة الظلال. وكان اللافت بالنسبة إليّ آنذاك انشغاله وهو في هذا العمر المتقدّم، بترجمة كتاب «روضة الورد… كلستان» للشاعر الإيراني سعدي الشيرازي.
ورأى بني المرجة أن الفراتي علم من أعلام الشعر العربي الحديث من أواخر القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين، وهو أحد ستة شعراء ولدوا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكانوا المؤسّسين الحقيقيين للحركة الشعرية في سورية وهم: محمد الفراتي، ومحمد البزم، وخير الدين الزركي، وخليل مردم بيك، والدكتور علي الناصر، وشفيق جبري.
وأضاف الدكتور بني المرجة: كانت الفترة التي عرفت فيها الفراتي هي السنة الأخيرة التي سبقت فترة تقاعده عقب تفرّغه للترجمة عن اللغة الفارسية في وزارة الثقافة، وكان كتاب «كلستان» أو «روضة الورد» للشاعر سعدي الشيرازي، الكتاب الأوّل الذي أصدرته وزارة الثقافة ضمن هذه السلسلة سنة 1962.
وأشار بني المرجة إلى أن الفراتي كان من ضمن الطاقم التأسيسيّ الأول لوزارة الثقافة والإرشاد القومي كما كانت تسمى في ذلك الوقت، وعمل فيها قرابة عقد ونصف من الزمن بين عامَي 1959 و1974، وأمضى معظم هذه الفترة في الترجمة عن الفارسية، كما عمل خلالها أميناً للمكتبة الوطنية في دير الزور.
وحول ما تعرّض له تمثال الفراتي في مدينة دير الزور من تخريب وتدمير من قبل الإرهابيين الظلاميين، قال بني المرجة: لا شك أن النَيل من تمثال الفراتي الذي يقف شامخاً أمام مبنى مديرية الثقافة في دير الزور، يمثّل اعتداءً على رموزنا الثقافية وحضارتنا. والإرهابيون يهدفون إلى محو الثقافة السورية وتشويه ما أبدعه روّادنا في ميادين المعرفة والعلم والثقافة. مؤكداً أن هذه الأعمال تفضح التوجهات التي تقف وراء عمل تلك المجموعات، ووجود خطة عمل ممنهجة للنيل من ثقافتنا السورية ورموزها. ولا شك أنهم أعجز من أن ينالوا من ثقافتنا ولن يستطيعوا تشويه حضارتنا وتاريخنا.