دمشق تكرّم عمر الفرّا في ذكرى أربعينه… ورحل فارس المنابر
لورا محمود
أحبّ عبق ياسمينها فأهداها عمره وقصائده. كان يتغنّى بقاسيونها وحاراتها، فبادلته الحبّ والعطاء والعشق. تلك الحبيبة التي تركها وفي قلبه حزن لما حلّ بها. فالكبير الذي غادرها وغادرنا، كان يريدها دمشق الجميلة البهيّة التاريخية المعاصرة، الجامعة وحاضنة كل من طرق بابها وشرب من مائها.
أنت أيّها الحاضر اختصرت وطناً بقصائدك. ودّعناك وأنت هنا بروحك، رثيناك وأنت هناك توصينا بأن نقدّم أرواحنا قرابين لحبيبتك سورية.
لمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الشاعر الكبير عمر الفرّا، أقامت وزارة الثقافة حفلاً تأبينياً، وذلك في مكتبة الأسد الوطنية في دمشق، وسط حضور ثقافيّ وإعلاميّ كثيف. وتخلّل حفل التأبين عرض فيلم وثائقيّ قصير تضمّن لمحة عن حياة الشاعر، وتحوّلات مسيرته الشعرية بين الغزل والمقاومة، إضافة إلى إلقاء بعض قصائده باللغة الفصيحة واللهجة العاميّة، والتي تناولت قضايا اجتماعية ووطنية مهمة.
عصام خليل
وأشار وزير الثقافة السوري عصام خليل في كلمته إلى أن النمط الشعري الذي كان يكتبه الراحل عمر الفرّا، كان له أثر على الصعيدين الإنساني والنضالي.
كما ألقى خليل نصّاً شعرياً رثى فيه الفرّا، مستخدماً الصور والإيحاءات الدالّة على عاطفته الفيّاضة إزاء شاعر رحل بعدما قدّم لنا أجمل قصائده عن الوطن والأنثى والإنسان، سواء باللهجتين الفصحى والشعبية فقال:
سلام على كلّ حرف توضّأ في مقلتيك
على كلّ موت كتبت وعانيت
ثمّ سلام على الماء
يمشي علينا… ويمشي بنا
ثمّ يذرو مواويلنا في براري السنين
سلام على الشعر يمسك بالأرض من يدها كي تقوم
ويستعجل القبّرات لتصطف… آمنة… في صلاة السهوب
نزار الفرّا
وعن والده، ألقى الإعلامي نزار الفرّا كلمة قال فيها: اليوم أقف في هذه القاعة المكتظّة لأحدّثكم عن الشاعر عمر الفرّا الذي أحبّه أصدقاؤه بسبب إخلاصه لموهبته، والتزامه القضايا الوطنية والاجتماعية ووقوفه إلى جانب المقاومة. فأنتم اليوم لم تأتوا كما كنتم تأتون عادةً لتسمعوه وليحدّثكم عن حقوقكم وقضاياكم وتراثكم وأرضكم. كلّكم عرفتم عمر الفرّا شاعراً فارساً من فرسان المنابر. عرفتموه وطنيّاً صادقاً محبّاً ملتزماً حتى يومه الأخير من حياته، لم يساوم، وما أحبّ المساومين يوماً.
وعن الإنسان عمر الفرّا تحدّث قائلاً: كان عمر الفرّا الإنسان بسيطاً ومتواضعاً. فهو الذي كان يقول: لا يمكن للشاعر أو الفنان أن يتحدّث أمام الناس عن فنّ أو أدبٍ أو عن تراثٍ، أو عن أيّ أمر، بينما لا يتطابق ذلك مع ضميره ووجدانه. كان يقول لي: يا بنيّ، لا يمكن أن تكون قريباً من الناس ومن همومهم ومن أوجاعهم، وولا يمكنك معالجة قضاياهم، إن لم تكن بينهم ومنهم. فأنا لا يمكنني أن أكون شاعراً شعبياً وكان يتحدّث بهذا المصطلح، لا بالبعد الذي يقصده النقّاد عادة، فقد كان يسرّه ويفرحه أن يقال أنّه شاعر شعبيّ إن لم أكن من هذا الشعب، وإن لم أكن ضميره وصوته، وإن لم أتحدث بأوجاعه.
وأضاف نزار الفرّا: كلّ من عرفك عرف كم كنت متواضعاً وشهماً. وعندما أقول هذا الكلام أرى كم تركت لي ولأخوتي إرثاً إنسانياً سنحيا به سنين يفوق كل الكنوز التي يمكن أن يتركها إنسان عندما يتعلق الأمر بماديات الحياة. وكم تركت لنا حكايات سنرويها لأبنائنا في المستقبل عن جدّهم الشاعر الكبير الذي عشق تراب هذه الأرض حتى اليوم الأخير من حياته، وحتى سكونه الأبدي في تراب هذا الوطن.
وأضاف: إن ما سهّل علينا ألم رحيلك، ما رأيناه من محبّة صادقة من قبل كل من جاءنا معزّياً.
نوّار الساحلي
أما المقاومة اللبنانية، فقد تحدّث بِاسمها عضو كتلة الوفاء للمقاومة النيابية النائب نوّار الساحلي، فقال: كان الشاعر عمر الفرّا شاعراً فريداً، ينتظره محبّوه لينصتوا إليه. ويتابعون شعره شكلاً ومضموناً، فهو الشاعر السوري الهوية، العربي الانتماء، المقاوِم بالممارسة. وقد كانت وما زالت قصائده على ألسنة الكبار والصغار، حتى أن المُقاومين يردّدونها على جبهات القتال.
وأضاف: من تدمر انطلق، إلى حمص فدمشق، فوصل عشقه الشعري إلى الجنوب، أي جنوب لبنان الذي كانت له مكانة خاصة لدى الشاعر، فنحن لا ننسى عنما قال «جنوبيّ الهوى قلبي وما أحلاه أن يغدو هوى قلبي جنوبيا».
وأشار الساحلي أن عمر الفرّا رحل، لكن شعره باقٍ فينا ومعنا، «فرجال المقاومة لن ينسوك، أنت الذي قلت عنهم بعد انتصار تموز عام 2006 إنّهم رجال الله في الميدان، هذا الانتصار الذي صنعته المقاومة والتي راهن البعض عليها، وراهن آخرون ضدّها منذ نشأتها. فالبعض اعتبروها نزوة، وآخرون اعتبروها مفصلاً في تاريخ الأمة، وربح المراهنون على المقاومة وأولهم الرئيس الراحل حافظ الأسد ومن بعده المقاوِم الكبير الرئيس بشار الأسد. فالمقاومة انتصرت عام 1996 وعام 2000 عندما دحرت الكيان الصهيوني عن معظم الأراضي المحتلة في جنوب لبنان، ثم في تموز عام 2006 عندما استكلب العالم بغربه وعربه على المقاومة، وظلّت سورية تدعم وتساند، وتمدّنا بالسلاح. فمن اعتبرونا مغامرين حينذاك، وشجّعوا «إسرائيل» وأميركا لاستمرار الحرب والعدوان على المقاومة، ذهبوا ورحلوا، وبقيت سورية والمقاومة.
وأضاف الساحلي: اليوم نقاتل سويّاً الإرهاب التكفيري الظلامي. فنحن أمام مشروعين: مشروع المقاومة ومشروع «إسرائيل» وأميركا ومن يستجديهما من دول الخليج. وليس طبيعياً أن نقف متفرّجين. فكما انتصرنا في السابق، سننتصر بهمّة رجال الله، رجال المقاومة، ورجال الجيش السوري، وهذا النصر آت، فنَمْ يا أبا نزار قرير العين، أنت منتصر ونحن منتصرون.
طلال ناجي
من ناحيته، ألقى نائب أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة الدكتور طلال ناجي، كلمة في الشاعر الكبير، تناولت روحه التي كانت من روح الأرض والأيام. فقد كانت فيه روح العاشق، وكان أيضاً صلباً كما جدران تدمر العظيمة.
كان شاعرنا الكبير صديق المناضلين، وفي شعره إعجاز أخذه من عين دمشق الحسناء الجميلة، كما كان يشتغل في أدبه ليصنع النور ويبدّد الظلام، لأنه صوت صارخ في مقارعة الظلم ورفض الخنوع.
وقال ناجي إن الشاعر عمر الفرّا بشعره، الشعبيّ والفصيح، كأنه كان يقول: إنّ كنت عراقياً فقلبي معك على الرافدين، وإن كنت مصرياً فعيني على موج النيل، وإن كنت أردنياً فأنت رفيقي في الأغوار، وإن كنت لبنانياً أغني لك نشيداً من البارود، وأن كنت فلسطينياً فلنا القدس ولك الراية. هذا هو عالم عمر الفرّا، عالم الأمة والوحدة.
وأضاف ناجي: لقد بدأت الأشرعة تتحرك الآن وتقودها دمشق. وغداً تقودها غزة والضفة. واليوم، هذا هو التاريخ في قبضة المقاومة، ولتكن هذه الأمة من صنّاع الزمن حتى تستقيم لغة الجغرافيا. رماح فرسان الجيش السوري صائبة، وهم عزّة سورية بقيادة الرئيس بشار الأسد.
نزار بني المرجة
أما رئيس تحرير جريدة «الأسبوع الأدبي» في اتحاد الكتّاب العرب الشاعر الدكتور نزار بني المرجة، فقد رأى أنّ الراحل عمر الفرّا في قصائده التي كتبها عبر حياته، التزم كامل القيم الاجتماعية والإنسانية والوطنية. ورثاه شعراً فقال:
وزرعت في الرأس… الرسالة
وزرعت أشجار الكلام… كنت تمتشق قصيدة
لن يمرّوا
ففي الوجدان إيمان… ورائحة الخزامى… من شذا الليل بعدما…
صمت الصهيل.
حسين جمعة
من جانبه، أشار رئيس اتحاد الكتّاب العرب حسين جمعة، أنّ السمة الأولى من سمات شعر عمر الفرّا الشعبي، أنّه شعر فصيح إنما بايقاعات شعبية بدوية معروفة، لذلك خُلّد شعره لأنه كان يتطابق مع لغتنا العربية المعروفة.
وأضاف جمعة أنّ الشعر حالة وجدانية تأتي على هوى الشاعر، سواء كان بدوياً أو فصيحاً. وشاعرنا الكبير نظم الشعر الفصيح، كما نظم الشعر الشعبي، وفي كلا النمطين هو شاعر مقاوِم، وقد صُنّف شعره بين شعر غزليّ وشعر مقاوِم، لكنني لا أرى فيه إلّا شاعراً وطنياً مقاوماً من الدرجة الممتازة، لأنّ في شعره الغزلي مقاومة لكل أشكال الانحراف. فقد كان يريد أن يبني الإنسان من خلال الشعر. فغاية الشعر عند شاعرنا الكبير كانت تتمثل في السؤال: كيف يُبنى الإنسان المعاصر، وكيف يتخلّى هذا الإنسان عمّا ورثه من بعض العادات القديمة المتخلفة. وهنا نفهم حديثه عن قصيدة الثأر وقصيدة «حمدة».
وأشار جمعة إلى أنّ الشعر إذا انطلق من القلب وقع في القلب. وإذا انطلق من اللسان واضحاً مفهوماً معبّراً عن قضية سامية، قضية وطنية، سيبقى خالداً. وكلّ شعر لا يحمل قضية، سرعان ما يموت. لذلك، إنّ شعر عمر الفرّا يحمل قضية الوطن بين جوانحه، لذلك سيبقى خالداً.
جهاد بكفلوني
ورأى مدير عام الهيئة العامة السورية للكتّاب الدكتور الشاعر جهاد بكفلوني أنّ عمر الفرّا شاعر انتقل من المحلية إلى العربية والعالمية، بعدما عبّر عن هموم الشعب السوري وآلامه وآحلامه، لأنه تمكن من امتلاك ناصية الشعر الحقيقية، فأدّى ما يحبّه الناس وما يجسّد قضاياهم، إضافة إلى ما يملكه من ثقافة عالية.
سومر عبد اللطيف
وألقى الشاعر سومر عبد اللطيف قصيدة رثى فيها الشاعر الفرّا، وعدّد بعض مناقبه وصفاته ومواقفه الوطنية والإنسانية، التي ضمّنها في قصيدته فقال:
أعبر الموت للخلود سبيلا
أجمل العمر أن تعيش قتيلا
أسقط الزيف عن وجوه المسافات
ودعنا نستفد منها دليلا
حمل النعش حامليه جلالا
مثلما تحمل السيوف النصولا
توفيق أحمد
وقال الشاعر توفيق أحمد ـ معاون مدير عام الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ـ إنّ عمر الفرّا صاحب بصمة في الشعر الشعبي السوري على وجه الخصوص، لأنّ قصائده استطاعت أن تلخّص أفكار الناس وهمومهم وقضاياهم، لذلك أحبّوها وحفظوها، فكانت قصائده تحمل عراقة البادية وحضارة تاريخنا المجيد، ولا يخفى عل أحد عشقة لمدينة دمشق الذي تجلّى في قصائده وأشعاره.
حضور ونبذة
حضر حفل التأبين كل من: المستشارة السياسية والإعلامية في رئاسة الجمهورية الدكتورة بثينة شعبان، ووزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك حسان صفية، وعضو القيادة القطرية في حزب البعث العربي الاشتراكي الدكتور خلف المفتاح، وعدد من الفنّانين والإعلاميين والمثقفين.
يذكر أنّ الشاعر الراحل عمر الفرّا من أهم الشعراء العرب الذين كتبوا قصائدهم باللغتين الشعبية والفصحى. وغيّبه الموت في 21 حزيران الماضي على إثر نوبة قلبية. وهو من مواليد تدمر عام 1949، وبدأ كتابة الشعر الشعبي منذ كان عمره 13 سنة، واشتهر بطريقة إلقائه المميّزة السلسة، وبكلماته المعبّرة القويّة.
ويعدّ الراحل الفرّا من أهمّ الشعراء العرب، عمل في التدريس في مدينة حمص لمدة 17 سنة، ثمّ تفرّغ للأعمال الشعرية والأدبية. وكانت معظم قصائده بالعاميّة البدوية، بلهجة بسيطة تتلاءم مع كل البيئات الشعبية، إضافة إلى قصائده بالفصحى التي تنوّعت وشملت القضايا الاجتماعية والأحداث التاريخية والأساطير.
وللشاعر الراحل عدد من المؤلفات، منها ديوان «قصة حمدة»، و«الأرض إلنا» و«كل ليلة» و«الغريب» و«رجال الله». ومن أشهر قصائده: «حديث الهيل»، «عرار الياسمينة»، «عروس الجنوب»، و«قصيدة وطن» وغيرها الكثير.