فيصل لعيبي: أسعى إلى إنتاج لوحة عراقية خالصة
صفاء ذياب
«كيف يستطيع مجتمع ما أن يستفيد من التراث الذي ورثه من أجداده وحضاراته السابقة؟».
من خلال هذا السؤال، بدأ الفنان العراقي العالمي فيصل لعيبي كلمته في الحفل الافتتاحي الذي أقامه له قصر الثقافة والفنون في مدينة البصرة قبل أيام. مضيفاً أن هذا السؤال يشغل مبدعي العالم عموماً والعالم الثالث على وجه الخصوص، إذ لا تزال هويته الثقافية غير مكتملة.
وأشار لعيبي إلى أن هناك لحظات في تاريخ البشرية غيّرت من حياة الفرد عموماً والفنان على وجه الخصوص، اللحظة الأولى هي لحظة انتقال الإنسان من جمع القوت إلى إنتاجه، وكيف استثمرتها الأجيال التالية، ثم اكتشاف النار وهي لحظة فاصلة في تطور المجتمع البشري نحو الخطوات اللاحقة، لتلحقها لحظة تشكل القرية والتجمع البشري والكتابة واستخدامها في التعبير عن هذا المجتمع.
لعيبي المولود في مدينة البصرة عام 1947، وتخرج في معهد الفنون الجميلة في بغداد أواخر الستينات من القرن الماضي، ليكمل دراسته في ما بعد في مدرسة خرّيجي الفنون الجميلة في باريس وجامعة السوربون. قضى في أوروبا أكثر من خمسة وثلاثين سنة، استطاع خلالها استشفاف فرادة حضارة ما بين النهرين وتراثها وفهمهما، وكان لذلك الأثر الكبير في صقل ماهية لوحاته وتوجّهه. فلوحاته كانت تعبيراً رمزياً للمجتمع العراقي في فترة مستقرة نسبياً في بغداد.
عن هذه المرحلة، يتحدث لعيبي قائلاً: حينما ذهبنا أنا وصلاح جياد إلى بغداد لدراسة الرسم. قدّمنا تقانة في الرسم وهو ما أدى لترحيب أساتذتنا في معهد الفنون الجميلة، مثل محمد راضي عبد الله وطالب حسن وأنس حداد وغيرهم الكثير، لكن لدى دخولنا إلى المعهد كانت موجة الحداثة في أوجها، لهذا حاولنا أن نكتشف طريقة مختلفة عن السائد، فبحثنا في الفن العراقي القديم، وأعدنا تصميم بعضها. وعندما ذهبت إلى فرنسا، كان أول ما صادفنا في عالمي الجديد تمثال غوديا حاكم لكش، صاحب الجرغاوية المعروف، وكان في قبالته تمثال فينوس العارية مقطوعة اليدين، فكنت بين حيرتين أو إشكاليتين: هل أنتمي إلى فينوس أو أنتمي إلى لكش وغوديا وسومر؟ فقرّرت أن أنتمي إلى غوديا، هذا العراقي الجالس داخل متحف فرنسي بكلّ أبّهة وجلال. وهو ما دفعني إلى البحث عن موضوع الهوية الذي ما زال مستمراً. لكنني لا أتجاهل ما ينجز في العالم الحديث من إنجازات مهمة جداً في التشكيل، ولا يمكنني أيضاً أن أتنكر لما تعلمته هناك من تقاليد وتقنيات وأساليب ساعدتني في تحسين أدائي في اللوحة التي أشتغل عليها حالياً.
وقدّم لعيبي سؤالاً مهماً: هل يمكننا نحن ورثة سومر وآشور وآكاد وبابل والحضارة الإسلامية في بغداد والكوفة والبصرة أن نقدّم للعصر الحديث شيئاً يضاهي عطاء الأجيال الحضارية التي سبقتنا أو يقاربه؟ أعتقد أن الجواب: نعم: جواد سليم كان ضمن هذا النسق، وأيضاً فائق حسن وشاكر حسن آل سعيد ومجموعة رائعة وجليلة من مبدعينا في الشعر والرواية والمسرح والموسيقى.
وفي سؤال طُرح أثناء الاحتفاء عن تأثير حياته في باريس، ثمّ لندن عليه كفنان، بيَّن لعيبي أن أي وسط يكون فيه المبدع يتحوّل مثل الاسفنجة، يأخذ منه ويمتص ما موجود لمصلحته، «بالتأكيد أوروبا أو الغرب أفاداني كثيراً، وأيضاً حسّنا من أدائي كرسام وأخلاقي كإنسان. قيم كثيرة كنت أؤمن بها في العراق اختفت، مثل الموقف من المرأة والتعامل مع الآخر وحق الآخر في أن يكون ضدك من دون أن يكون عدوك، هذه القيم ما تزال تنمو في مجتمعنا، لكن في الغرب هذه جزء من السلوك العام في الإنسان. لكنها أيضاً زادت عندي الحنين والبحث عما هو قريب من بيئتي الأولى».
أما عن اختلافه وتميزه كفنان، فقد أوضح لعيبي أن كل فنان لديه أداته التي يتميز بها، ففائق حسن اختلف عن عبد القادر الرسام وأضاف للرسم العراقي لمسته الخاصة وميزته عن الآخرين، بالنسبة إليّ، أفكر في الشخصية، التقنية ربما تكون أقرب إلى المنمنمات، وهذه واحدة من مهامي التي أسعى من خلالها لتحويل المنمنمة إلى لوحة، واللوحة إلى منمنمة، فهل نجحت أو فشلت، هذا عائد للمتلقي والناقد. وربما تكون كل أعمالي هباء ولم أقدم شيئاً حقيقياً بحسب آراء بعض النقاد».
لعيبي أكد أنه فنان اجتماعي ملتزم قضايا المجتمع، ولا يؤمن أن الفن للفن، ولا يعتقد بمن يقول بموت المؤلف، فالفن من وجهة نظره، ظهر وما يزال للتعبير عن معاناة الإنسان ومواقفه وآرائه في محيطه. كيف يخرج وبأي طريقة يعتمد هذا على طبيعة الفنان وثقافته وبيئته؟ فالفنان الأفريقي يختلف عن الصيني بسبب البيئة والأدوات المختلفة والتقنية المتوفرة في هذا المجتمع أو ذاك، «لكنني كفنان أعتقد أنني ملتزم بمقولة أن الفنّ لصيق بالمشكلة الاجتماعية».
سعى لعيبي منذ بداياته لإنجاز لوحة تكون عراقية خالصة، لوحة يعرف المتلقي بمجرد مشاهدتها أنها جاءت من العراق، مثلما هناك لوحة هندية أو صينية، وهذا طموحه الأول، وهي محاولة ـ بحسب ما يرى ـ ليست بالجديدة، بل بدأها قبله وحققها جواد سليم وفائق حسن، و«قد كتبت مادة بعنوان المثلث الذهبي في الرسم العراقي تناولت فيها جواد وفائق ومحمود صبري، وهم من وقف عليهم الرسم العراقي، وتميز من خلالهم عربياً».
يلاحظ على غالبية أعمال لعيبي نقاط مهمة تبرز وجهات نظره في الشخصية واللون وزوايا اللوحة، فمن الملاحظ أن جميع شخصيات صلعاء، وقصار القامة، ومتيني الأطراف، وقد برّر ذلك بقوله إنّ غالبية هذه الأعمال مستوحاة من تمثال غوديا، فقدم السومريين، خصوصاً رجال المعبد حليقي الرؤوس، كدليل القداسة والنظافة معاً، «ثمّ كانت عائلتي تجبرني أن أحلق شعري نظافة واقتصاداً أيضاً، المسلمون عندما يذهبون للحج يحلقون رؤوسهم دليلاً على النظافة».
أما عن بنية اللوحة، فقد تحدث الفنان والناقد خالد خضير الصالحي، مبيّناً أن لعيبي يشتغل دائماً على الوضع الأمثل في الرسم، وهو أن يرسم كل جزء في الجسد الإنساني بالكيفية الأفضل للرؤية، بمعنى أن يرسم الوجه بشكل جانبي، والعين بشكل أمامي، والأكتاف بشكل أمامي، ثم تحدث استدارة بالجذع لتكون الأقدام بشكل أمامي، لأن أفضل رؤية لهذه الأجزاء هي ما تجسدت في الوضع الأمثل، وهذا ما كان يفعله المصريون منذ بدايات رسومهم.
ويعتقد الصالحي أن لعيبي من أكثر الرسامين العراقيين الذين كتب عنهم، لكن تجربته في الوقت نفسه مظلومة لأن قراءة أعماله كانت شعبية فولكلورية، لأن مساهمته تتعدى هذه القضية بكثير، وإلا لو كانت قضية الفولكلورية هي الأهم لكان رسامو المتحف البغدادي هم من أبرز الرسامين.
ويضيف أن مساهمة لعيبي جزء من مقترحات عدّة لقضية جماعة بغداد للفن الحديث التي أُسّست على خطاب استُعير من خطاب عصر النهضة العربية وهو ضرورة المزاوجة ما بين التراث والمعاصرة، بمعنى تطويع تراث الرسم بمصادره المختلفة في قوانين اللوحة المسندية. ويرى الصالحي أن لعيبي ومجموعة من الرسامين الواقعيين على الطريقة السوفياتية والمكسيكية، يشكلون اتجاهاً لهذه الفكرة للمزاوجة بين التراث والمعاصرة.
إضافة إلى لعيبي، كانت في إعادة قولبة الرسم الرافديني والإسلامي وفن تصوير الكتب والمنمنمات صهرها لتخضع لقوانين اللوحة المسندية. كما أنتج لعيبي نموذجاً خاصاً من الوضع الأمثل، وهي أن يرسم الكتف البعيد بوضع أماميّ وتستدير الكتف الأقرب لتكون جانبيةً، وهذه هي الإضافة الأولى، الثانية أن لعيبي أخذ من التكعيبية تعدّد وجهات النظر، لذلك فموجودات اللوحة تتخذ وضعها الأمثل، الصينية يرسمها بطريقة عين السمكة، في حين يكون الاستكان بشكل معتدل، وهذه رغبة من لعيبي لوضع الموجودات كلها بالوضع الأمثل، فقط قضية واحدة لم يتمكن من رسم «الشخاطة» علبة الكبريت لأنها لا يمكن إلا أن ترسم بالشكل المجسم.
ثالثاً، أوجد لعيبي طرقاً لملء الفراغ، كأن يحول الأرضية إلى مربعات من أجل أن يردم مساحة اللوحة وإلغاء الفراغ، وحتى الأشكال مارس فيها منظوراً تكرارياً، فكل الموجودات تبدو طافية على مستوى واحد وكأنها مرصوفة كسمك السردين في العلبة.
من جانبه، أشار الكاتب محمد خضير إلى أن فيصل لعيبي يعمل على أسس ترتبط بقضية الضمير وبالشحنة الداخلية الرمزية وبصفاء الرؤية أيضاً. هذه الثلاثية المفاهيمية: قوة الضمير وشحنة الفنان وطاقته الداخلية وصفاء رؤيته، هي السبب في أن لوحات لعيبي التي عرضت في معرضه الأخير في دبي قد بيعت كلها بفترة قياسية جداً، لا لأن أهل دبي أو السياح اقتنوها لسبب فولكلوري أو غير ذلك، لا أعتقد هذا، فسوق دبي الثقافي والفني واسع جداً ومفتوح للكثير من المستحدثات الفنية، ولكنهم وجدوا في لوحات لعيبي هذه المفاهيمية ذات الشعب الثلاث. في حين تحدث الشاعر كاظم الحجاج بإسهاب عن حياة لعيبي وعلاقته به منذ طفولتهما، ومن وجهة نظره فالحديث عن فيصل لعيبي يقتضي الحديث عن البصرة كلها، البصرة بجهاتها الأربع. ثمّ قسّم الحجاج المدن بحسب ما قدّمه أبناؤها، مثل الشعر في أبي الخصيب، والفن في شط العرب، والبريكان في الزبير، والعقلانية في القرنة، والتنوع الفكري والثقافي في منطقة الفيصلية.
جاء لعيبي من عائلة فنانين بالكامل، فيصل إنسان ذو مزاج غريب، في داخله روحان، روح فلسفية غيبية، وروح الحياة الاجتماعية، حسبما يرى. إذ يضع لعيبي ملامحه وهو صبي في أعماله جميعاً، وكأنه يريد أن يثبت صباه، كما أنك تجد أن شخصياته تنظر إلى كاميرا. كانت ثقافتنا الأولى ثقافة سينمائية، حتى في أزيائنا وحركاتنا، ومتعتنا الأكبر حينما نذهب إلى السينما وحفظ أسماء الممثلين والمخرجين، وهو ما ترك أثره حتى الآن في شخصياتنا.