في انعكاس الحدث «الداعشي» في العراق على سورية
د. إبراهيم علوش
كانت المعركة في سورية في طور الحسم النهائي لمصلحة القيادة السورية والجيش العربي السوري، عندما قامت «داعش» بحركتها التوسعية من الرقة ودير الزور في اتجاه محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار. فتوقيت بداية النهاية في سورية لم يكن إلاّ توقيت نهاية البداية في العراق، التي شرعت في تصعيد حملة السيارات المفخخة طائفياً وسيطرة «داعش» على الفلوجة، فلا يمكن في أيّ حال أن نفصل التوقيت الأول عن الثاني، لأن «داعش» لم تهبط على الرقة ودير الزور من السماء، إنما من حاضنة الحدود التركية-السورية وبرعاية تركية وبترودولارية رسمية، وهذا يعني أن ثمة قوى إقليمية تقف في ظلال الهجمة على سورية والعراق، حتى لو كانت «داعش»، مثل فيروس مناهض لكل شيء بشري، قابلة للإفلات ممن أطلقه.
من الواضح أن مشروع القرار الروسي في مجلس الأمن الذي يدين شراء أي نفط يموّل الجماعات الإرهابية في سورية هو قرار موجه ضد تركيا أساساً، إذا تتم عمليات شراء النفط الخام من «النصرة» و»داعش» وغيرها من الجماعات المسلحة عبرها. وعندما يُقال في وسائل الإعلام إن النفط العراقي يتسرب عبر كردستان إلى الكيان الصهيوني فإن ذلك يعني فعلياً أنه يتسرب إلى الكيان الصهيوني عبر تركيا، فإقليم كردستان في شمال العراق ليس له منفذ على البحر. ومن المرجح أن تتوسع مثل هذه عمليات بيع النفط المسروق للكيان الصهيوني عبر تركيا ما دامت «داعش» تسيطر على مناطق منتجة للنفط في سورية والعراق، وما دامت البشمركة بسطت سيطرتها على كركوك وضواحيها.
هذا يعني تزويد «داعش» تمويلاً إضافياً، فضلاً عن تعزيز القاعدة الاقتصادية لأي إعلان استقلال كردي مستقبلاً. هنا يتكشف الأساس الاقتصادي للتعاون بين «داعش» والقوى الكردية الانفصالية. لكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد. فتركيا قد تتاجر بالنفط المسروق والمهرب، لكنها تتوجس خيفة من النزعة الكردية الانفصالية. لكن تركيا لا تلعب بالنرد عندما تسهل أمر «داعش» في العراق، أو في سورية، إنّما ثمة كتاب أعمدة غربيون يلمحون منذ اندفعت «داعش» داخل العراق إلى أن الحل الوحيد للمشكلة هو وضع شرق سورية وغرب العراق تحت السيادة التركية!
إذن «داعش» قد تصبح ذريعة مغطاة «ناتوياً» لتسليم محافظات الرقة ودير الزور ونينوى وصلاح الدين والأنبار لتركيا، ما يعني الإجهاز على استقلالية الإقليم الكردي شمال العراق، أي أنه يضرب عصفورين بحجر تركي واحد. ولن تكون المرة الأولى التي يُستخدم فيها الأكراد وقوداً في معركة إقليمية أكبر منهم.
على مستوى المكوّن السني العراقي، فإن تعزيز سيطرة «داعش» على الأرض وانتشار خطابها المتشدّد ونهجها الطائفي في الحاضنة الشعبية التي تحويها، سيضاعف الاحتقان الطائفي في العراق وسيشكل عمقاً لوجستياً وسياسياً للوجود «الداعشي» في الرقة ودير الزور، وسيدفعه إلى محاولة الانتشار، كما في حلب، مرةً أخرى بصورة تتوافق مع المشروع التركي في محاولة منع الجيش العربي السوري من تحرير حلب وريفها وريف اللاذقية. أي أن القفز من سورية إلى العراق في المرحلة الأولى سيأتي بعده الارتداد من العراق إلى سورية، لتصعيد الإرهاب «الداعشي» فيها، ولإبقاء الأزمة السورية مشتعلة، في محاولة لابتزاز سورية سياسياً ودفعها إلى المطالبة بتدخل غربي-تركي لاحتواء «داعش».
من البديهي إذن أن يفكر الانفصاليون الأكراد في العراق بمد سيطرتهم على المناطق الكردية في سورية، أسوة بما فعلته «داعش»، فثمة تقسيم أدوار هنا، ومن البديهي أيضاً أن الرد على ذلك يكون بشن هجوم مضاد على «داعش» من جهة العراق وسورية في آنٍ واحد، فلم يعد هناك مناص من تنسيق الجهود عبر الحدود السورية-العراقية لمواجهة مثل هذه الحالة رغم الملاحظات كلّها على النظام العراقي الذي تأسس بعد الاحتلال على خلفية طائفية. لكن المسألة الآن باتت تتعلق ببقاء العراق وسورية كبلدين عربيين.
إن ترك الأمور على ما هي عليه سوف يقود إلى حرب أهلية في العراق وإلى عملية تقسيم، ونذكر جميعاً خطة تقسيم العراق «غير الملزمة» التي أقرها مجلس الشيوخ الأميركي في أيلول 2007 إلى كردستان و»سنستان» و»شيعستان» والتي باتت تتحقق أمام أعيننا الآن، بأيدٍ «داعشية» وانفصالية كردية، وبحاضنة في وسط العراق سقطت في أحضان حكام السعودية، وبقوى طائفية في الجنوب سيطرت على العراق ولم تتمكن من إنتاج مشروع وطني للعراق بكامله فأنتجت شروخاً طائفية سارعت إلى استغلالها قوى إقليمية ودولية لتفكيك البلاد في لحظة إدراكها لهزيمتها في سورية.
النقطة الأخيرة تحديداً تستلزم التركيز على البعد الوطني والقومي لدى سورية لتحصين نفسها من الارتدادات الطائفية القادمة من الشرق، فالطائفية تطلق طائفية مضادة، بغض النظر عن العنوان، ومع أن العراق الموحد في ظلّ أي حكم أفضل من تقسيمه، فإن الضمانة الحقيقية للوحدة تبقى الطرح الوطني والقومي الذي يتجلى في سورية أكثر بكثير مما يتجلى في العراق.