السجّان الذي يطارد ذيله!

نصّار إبراهيم

يعتقل السجّان ذاته… بينما يحلّق الأسير حراً عبر النافذة!

يقف السجان الجندي بكامل عدته وقسوته وشعوره بالتفوّق ولون شيطاني يفحّ من تحت الخوذة… مدجّج بالكراهية والقضبان والرصاص… يعتقد أنه يمسك زمام المبادرة والقوة… فهو لا يعي بأنه مقيّد بسلاسل لا نهائية مرئية ومضمرة… فمع أنه بكامل جبروته وحريته الظاهرة والمفترضة، غير أنه لا يستطيع الفكاك أو المغادرة… لأنه محاصر بذاته، ومحاصر بالمعتقلين والأسرى، محاصر بقضبانه وحدود قوته التي تبقيه أسيراً مؤبداً لسلطة مفترضة، لأنها سلطة عاجزة وباهتة أمام عنفوان أسير لا تمنعه القضبان وحدود الزنزانة عن الركض وراء أحلامه وإعادة تكثيف إنسانيته وإطلاق خياله إلى ما وراء محدودية المكان فيعانق المطلق الممتدّ.

يعيد الفنان الصديق يوسف كتلو في لوحتة الكثيفة في دلالاتها وخطوطها ومساراتها وفضاءاتها المشتعلة بناء علاقات المواجهة والاشتباك، فالجندي السجان محاصر في قسوته، عاجز عن التعبير عن عواطفه وإنسانيته، فيبدو كآلة مقهورة بقوتها وجبروتها المفترض أمام إنسانية آلاف الأسرى الضاجين بعواطفهم وأحلامهم، بالشعر وبالحبيبة، بالوطن والحقل والسنابل وأرض البرتقال والأم والقهوة والخبز الطازج ومناغاة الأطفال… أما السجان القويّ المفترض، المدجّج بالفولاذ والرصاص فيبدو فاقداً للحياة والروح والمبادرة… يخشى الابتسام ويخشى العشق والنظرة الحالمة كي لا يُفسّر ذلك على أنه ضعف في عيون ووعي من يفترض بأنه يحاصرهم ويعتقلهم، وهنا المعضلة، فمن يخفي ضعفه ليضاعف قوته فإنه في الحقيقة لا يبني القوة وإنما وهم القوة.

لهذا يقف السجان صامتاً صارماً منغلقاً على ذاته… لكنه عاجز ومقيّد بدوائر الحصار التي خلقها وبهذا فهو يحاصر ذاته، وكأنه يطارد ذيله إلى ما لا نهاية.

إذن، الفنان كتلو في لوحته «السجان والأسير» يقوم بتفكيك المعادلات وإعادة تركيبها من جديد… فالسجان محاصر ومقيّد بمن هم داخل السجن، أي بمن يفترض بأنه يحاصرهم، في حين أنّ الأسير المحاصر بالسجان والقسوة واللا إنسانية يفيض بما هو خارج القضبان سنابل وضوء وحركة ونبض حياة تتزاحم في الوعي… يقنع السجان أو المؤسسة نفسيهما بأنهما يحاصران من هم في الداخل بجبروت القوة والفولاذ والنظام… لكنهما، وفي ذات اللحظة، بوعي أو بدونه، يصبحان عاجزين أمام حالة امتثالهما لثقافة القوة والتفوق التي طحنت فيهما كلّ عقلانية وإنسانية وأخلاق… عملية الإحلال القسري هذه تضع السجان نفسياً في موقع الأسير، فيما يتجاوز الأسير حدود سجنه بروحه وأحلامه وأمنياته التي لا تعرف حدودا.

كم هو مسكين ذلك السجان وهو يقف عاجزاً عن حصار من يفترض بأنه يحاصرهم بالقضبان ومعادلات القوة… فهو مشغول كلّ الوقت بإثبات قوته وإخفاء ضعفه، إنه يتآكل ذاتياً من خلال قهر إنسانيته أو ما تبقى منها، وبهذا وبدون أن يعي يقوم بتدمير الشرط الموضوعي لأساس القوة المعنوية والأخلاقية للفرد أو المؤسسة.

لقد قامت كل مقاربة السجان على فرضية إمكانية تدمير الإنسان في وعي وسلوك الأسير الفلسطيني، فإذا به يدمّر ذاته هو… فكلّ محاولاته وأساليبه ووحشيته وقسوته لم تمنع أسيراً فلسطينياً من الغناء وهمس الشعر والابتسام… لقد صقلت الجدران والقضبان إنسانية ذلك الأسير الحالم، وفي ذات اللحظة دمّرت كينونة الجندي السجان، وأفقدته معالمه وخصوصياته وتفاصيله، فبات رمزاً فارغاً لقوة عاجزة… ولهذا فهو دائم القلق والبحث عما يضيف إلى قوته المفترضة المزيد من القوة والقسوة والقضبان والرصاص، وبهذا يضيع أكثر في متاهة الانفصام وفقدان الذات، إنه يحاول دائماً أن يجد ذاته ولكنه دائماً يضيّعها، ذلك لأنه يصرّ على خوض مواجهة يستحيل عليه الفوز فيها… لأنه وبكلّ بساطة يقف في الجانب النقيض لكلّ ما يشكل شرطاً للانتصار!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى