مختصر مفيد رحيل أردوغان طريق استقرار تركيا
منذ بدايات الأزمة في سورية، كان واضحاً أن تحويل الرئيس السوري بشار الأسد هدفاً لحرب عالمية لم يكن تعبيراً عن الأهداف المعلنة للحرب بالسعي إلى تغييرات في بنية الحكم الدستورية، من نوع تعديل المادة الثامنة من الدستور التي تنصّ على الدور القيادي لحزب البعث، أو تغييرات سياسية من نوع توسيع قاعدة المشاركة في السلطة لتضمّ شرائح إضافية من بوابة مساحة أوسع من الحرّيات والتمثيل النيابي. فقد كان الخطابان الداخلي والخارجي يقومان أصلاً على التنويه بنيات الرئيس السوري الإصلاحية، ويلقي باللوم على مَن كان يسمّيهم بالحرس القديم الذين سرعان ما صاروا حلفاء لشركاء الحرب التي تستهدف الرئيس بشار الأسد.
كان كل الذين يقفون وراء الحرب لا يستطيعون المجاهرة بأهدافهم الحقيقية والتي تطاول قرار سورية المستقل، وخيارها المقاوِم، وتمسّكها بالعروبة ومفهوم الدولة المدنية، وتموضعها في الجغرافيا السياسية للمنطقة ضمن حلف يبدأ بإيران وينتهي بروسيا. لذلك، كان أقصر الطرق لبلوغ هذه الأهداف هو التصويب على الرئيس الأسد، لكونه يختزن بموقعه الدستوري والثوابت التي يمثّلها ويتمسّك بها، هذه العناوين والخيارات المستهدفة.
تصدّرت تركيا جبهة الحرب على سورية، لكونها شرطاً لازماً لاكتمال مقتضيات التفكير بحرب بهذا الحجم، من مكانتها الحدودية مع سورية وتداخلها الديمغرافي وحجم قدراتها الجغرافية والعسكرية والاقتصادية. لكن، وبصورة أهمّ لتناسب مشروع الحرب مع طموحات الرئيس التركي رجب أردوغان القائم على نظرية العثمانية الجديدة، ودور الأخوان المسلمين المحوري فيها، والمكانة التي تحتلها سورية في قلب هذا المشروع، والتي يتوقف على نجاحه فيها مصير مستقبله في سواها، فسورية هي بوابة تركيا على العالمين العربي والإسلامي، وتعثّر المشروع فيها يعني بداية سقوطه.
رصدت لتركيا مقدّرات الحرب كلها، فزيّنت صورة نظامها الجامع بين العلمنة والإسلام وبين الأطلسي وتبنّي مقاومة حركة حماس ودعم غزّة في وجه الحصار. ووضعت إمارة قطر مالاً وإعلاماً في خدمتها ومعها صورة إعلام يشتاق إليه العرب بمساحات الحرّية والرأي والرأي الآخر وتبنّي قضايا العرب. وجرى ضبط الأداء السعودي بما لا يصيب الحركة التركية بالارتباك، وجلبت كل قدرات تنظيم «القاعدة» من أنحاء العالم إلى الحدود التركية ـ السورية برعاية حكومة أردوغان وتسهيل الغرب وتمويل السعودية وقطر، ومنحت تركيا دفعات على الحساب لقاء الفوز في سورية، من تسليم الأخوان للحكم في تونس إلى مصر ومنحهم موقعاً متقدّماً في كل من ليبيا واليمن. ولما تعثر المشروع، بدأ سحب الدفعات واسترداد السلف، وصولاً لإطاحة أمير قطر ورئيس حكومته بتقاعد مبكر، فتغيرت مصر وتونس وارتبك النظامان الجديدان في اليمن وليبيا، ولاحقاً اهتز الحكم التركي انتخابياً قبل منحه جرعة دعم للطلقة الأخيرة بعد التموضع الروسي الجديد في الحرب، لكن بعد سحب صواريخ «باتريوت» التي كان يبني عليها حلم المنطقة الآمنة شمال سورية.
حاولت سورية وحاول حلفاؤها نقل تركيا إلى ضفّة صناعة الاستقرار مبكراً، فكان مشروع الرئيس الأسد لتكتل دول البحار الخمسة، وفي قلبها تركيا، لتشكيل نظام إقليميّ يضمن الاستقرار، وفتحت الأسواق السورية للبضائع التركية، ومثل سورية فعلت إيران وروسيا بعد بدء الحرب على سورية، فقدّمتا كل الإغراءات لتركيا اقتصادياً وسياسياً، وجرى التغاضي عن كلّ العنجهية والتذاكي وتتّسم به سياسات أردوغان. فنالت تركيا مكانة متميزة في الاقتصاد الإيراني ومثلها في الاقتصاد الروسي، وقدّمت مشاريع مشتركة روسية وإيرانية لتركيا تخطّت أحلام أردوغان، ومكانة سياسية تحلم بها تركيا، لكن جنون العظمة الذي تخطّى كل حدود أبقى أردوغان في لعبة العنجهية والتذاكي.
قال أردوغان يوماً إن واحداً من اثنين يجب أن يترك الحكم حتى تستقرّ المنطقة، الرئيس الأسد أو رجب أردوغان. ومع حسم بقاء الرئيس الأسد صار لا بدّ من رحيل أردوغان. واليوم يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن لا إمكانية لتطبيع العلاقات الروسية ـ التركية مع القيادة الحالية. ما يعني رسالة قوية للأتراك: إن أردتم أفضل العلاقات مع روسيا فليرحل أردوغان.
رحيل أردوغان طريق استقرار تركيا..
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.